Atwasat

شاعر أحوال حايلة

سالم الكبتي الأربعاء 21 يوليو 2021, 10:11 صباحا
سالم الكبتي

ودان. الجفرة. الحياة والنخيل والأسمار والليالي. والحكايات والأشعار والتلال. لكنها قبل ذلك تظل من أقدم المراكز السكنية في الإقليم الليبي الأوسط. ورد اسمها مرارا مع شقيقتها زويلة داخل ليبيا في العمق بعيدا عن الساحل في أغلب تواريخ الفتوحات الإسلامية التي جرت في المنطقة. وهناك ودان أيضا في الجزيرة العربية.. فهل ثمة علاقة؟

الفضاء الفسيح بعد الرواغة ثم تطل من بعيد طوزه .. القلعة القديمة المسيجة بسور عال. إنها تتوسط ودان وهي أقدم مبانيها. والأحياء والبيوت المتجاورة والعلاقات التي تنهض مع الشمس كل يوم ولاتموت.

هناك بين حفيف النخيل وشارع شباشه وحومات ودان والحياة التي تسير مع حركة القوافل والتجارة ومحطات الطريق ومحاصيل التمور. تاريخ عريق وحكايات وأشعار بلا انقطاع وسط الصحراء البعيدة.
هناك ولد شاعر ليبي كبير. محمد بن زيدان الشريف.

ابن ودان وأحد علاماتها وأعلامها الفارقة. سيظل لاحقا تاريخا وشعرا يروى وتردده التلال والصحارى والسواحل والمهاجر. صوت ودان في عمق الوطن. كان ذلك في العام 1880. مازال الترك في الساحل والصحراء وضدهم تنفجر الثورات ولاتتوقف. إحداها ثورة عبدالجليل سيف النصر في تلك الأطراف. كان شاعرا وفارسا أيضا. قطعوا رأسه مع أخيه وعلقا في القلعة بطرابلس.

أحداث ساخنة يمر بها الوسط الليبي ولايهدأ وتتداعى لها بقية أنحاء الوطن رغم البعاد وانقطاع الوسيلة. والحكايات تظل تروى في الأسمار في ليالي الشتاء ويسمعها الصغار مع الكبار. الفروسية والشعر يتلازمان في المجالس مثل الميادين. ومثلما يجري على صهوات الخيول في النجاد والسهول.

حياة الشاعر وسيرته إلى وفاته عام 1955 هي خلاصة تفاصيل عديدة من الحكايات التي سمعها أو الأحداث التي وقف عليها. كونت تجربته وصهرتها الأيام بالمزيد من المعاناة. ولهذا ظل صاحب شهرة وصيت واسعين. كشهرة أشعاره وسيرته في الصحراء والساحل.

حين كان صبياً في التاسعة عام 1889 هاجر والده السيد زيدان الشريف من ودان إلى تشاد وتوفي هناك فظل يتيماً وحيداً يواجه قسوة من أحد أعمامه واضطر إلى ترك ودان خلفه عام 1894، واتجه صوب الشمال وأقام في توكرة شرقي بنغازي.

التي تجاور الجبل وتقترب من المرج وطلميثة اللتين شهدتا حضارات عريقة أيضا وعند قدميها البحر والآثارالموغلة في القدم. نقلة كبيرة من الصحراء والنخيل إلى عالم آخر يختلف تماما عن العالم الأول الذي تركه خلفه ونسي معه القسوة ومارافقها. تعلم في زاويتها السنوسية وحفظ القرآن الكريم وحصل على ثقافة دينية وأدبية وتولى التدريس بالزاوية نفسها في مرحلة لاحقة.

المعلم والشاعر مكث حوالي عشرين عاماً في توكرة بعيداً عن ودان ونخيلها ودروبها وحوماتها وكانت تلك الأعوام كفيلة بالمزيد من صقله بالتجارب وتزويده بالخبرة الواسعة في الحياة إلى العام 1914 وهو العام الذي اندلعت فيه الحرب العالمية الأولى. وتزامن الشعر الحقيقي مع أجواء الحرب والظروف. وكان نظمه الشهير:
أحوال حايلة بين المنام وطيبه ........... أحوال جبدهن للناس فيه الغيبه

أحوال عجايب ........... منهن سقيم العقل فكره غايب
ومنهن رضيع الثدي راسه شايب ..... أحوال حالهن مقدرتشي نشكي به
إن شاكيت ما تلقى حذاك حبايب ...... مفيت الشوامت بالخلاف تجيبه

(أحوال حايلة) للشاعر محمد بن زيدان غدت قصة ومثلا يفصح عما في الفكر والنفس. نسج عليها كبار الشعراء مثله داخل الوطن وخارجه في المهجر، وكلٌّ في ردوده كان قوله صادقا ومطابقاً لما في (الفاهق) ومقتضى الحال وأوجاع الوطن المغلول في قبضة الاحتلال الرهيبة وظلام الظروف.

كانت هناك ردود مشهورة من: الفضيل المهشهش، وعمر بوعوينة المنفي، وبورويلة المعداني، وحسين لحلافي، ومفتاح الحِقّ، وسليمان رقرق، ومعتوق الشركسي.. وغيرهم.

شعراء كبار من مختلف الأرجاء شاركوا بن زيدان الشاعر الكبير فيما قاله من أبيات أضحت هماً عاماً وغدت من عيون الشعر الشعبـي الليبـي.. حية على الدوام وتنهض شامخة مثل طائر الفينيق من بين ثنايا الرماد. صارت ملحمة تاريخية شعرية فخمة تحتاج على الدوام إلى الاستنطاق والدراسة والتحليل.

ويظل الشاعر شامخا حتى في همومه ولايكاد يبين هذه الهموم الخاصة ويطلق نظمه القوي الذي جراءه يختصم غيره ويحتكم ويؤوله كيف يشاء. كانت الظروف التي تحيط بالوطن تسمح تماما بإسقاط حالة الشاعر ومعاناته النفسية على كل التجارب والأحداث الجارية.

في نظم عميق يقول:
خطا صار ع الحادر من اللي راقي ...... خطا شين ماصارن عليه متاقي
قدعتها باصروعها ............ وريحت قدمي والركاب قدعها
وريت نار شاطت نار من ولعها ...... وبارود يضبح من جعب صعفاقي
ويصعب ع اللي يفسروه خبرها ......... بين الحضر البادية ولسواقي

ونظمه الأخر المغرق في الرمزية الفنية إن صح التعبير:
حوالات حال الدهر واحل فيهن ....... علي كيف في للفاظ بينبنيهن
غير نخمم ................ وم المواجع بايت خاطري مجمم
فرق الصقوره بالسيور مكمم ....... وخرب الحباره جا يزوك عليهن
أحوال لاتفكرهن ........ واطي النظر عن شبحهن واهجرهن
أحوال نازلة م الرب ومقدرهن ...... رشم سطرهن من فوق الجبين فقيهن
كيف ياحبيبي ليك بنفسرهن ........ وانا علوم الغيب ماندريهن

الشعر والحكمة والفلسفة وتجارب الأيام هي معاناة بن زيدان على مدى حياته بكل صدق وعفوية آسرة تسكن في أعماق القلوب. الشعر حكمة الحياة وضالة الأيام في كل الظروف.

كانت ثمة مساجلات شعرية أخرى بين الشاعر وصديقه عبد القادر المنتصر في مصراتة، كان بينهما تقدير متبادل يفيض احتراماً ومحبة في زمن صعب وحالك، وكانت هناك للشاعر أيضاً مشاركة مهمة في ملحمة (مابي مرض غير دار العقيلة) لرجب بوحويش، وبعض من الشعر مع ابنه زيدان بن محمد. البيئة الشاعرة الحقيقية تلد الشعراء والرواة.

ثم تبقى الكلمة. يبقى الشعر ينحت الجدران ويدق الأسوار العالية ويظل شاهدا من شواهد التاريخ العظيمة.