Atwasat

السرديات الكبرى وجدل العبد والسيد

سالم العوكلي الثلاثاء 20 يوليو 2021, 01:59 مساء
سالم العوكلي

عادة ما أسجل الأفكار الطارئة التي ستنطلق منها بعض المقالات، تحت عناوين مؤقتة، في ملف مسمى مقترحات، وأنتظر الوقت المناسب للرجوع للفكرة ومعالجتها. إحداها كانت معنونة بـ(العبد والسيد) مع اقتباسات مهمة من كتاب "متاع الفيلسوف" للمؤلفين: بتير س. فوسل/جوان باغيني. ترجمة نجيب الحصادي، تتعلق بتأملات هيجل لهذه الثنائية والسبيل لإنهاء هذا الشقاء المتبادل. ظلت هذه الفكرة مجرد عنوان لفترة طويلة إلى أن قرات مقالة الكاتب عمر الككلي، المنشورة ببوابة الوسط "الموقع الطبقي ونفسية الفرد" فحفزتني على العودة لهذا العنوان، مثلما حفز الككلي خطابُ الزعيم الزنجي الأمريكي المسلم مالكولم إكس الذي ألقاه سنة 1963، ويحلل سيكولوجية الخدم (العبيد) من خلال تجربة الزنوج مع سادتهم: "خلاصة فكرة الزعيم مالكولم إكس، في هذه الفقرة من خطابه، أن زنوج (خدم) المنازل يختلفون في طبيعة نفسيتهم، وبالتالي سلوكهم، عن نفسية وسلوك زنوج (عمال) الحقول"2.

ورغم استخدام مقالة الككلي لاصطلاح الزنوج كما وردت في الخطبة، فإن المنطلق يصب في خانة علاقة العبد بالسيد والسيد بالعبد كما طرحها هيجل، وهي علاقة معقدة، ظلت في الإطار الاجتماعي والاقتصادي، أو الطبقي كما أشار الككلي، لكن حين دخلت عليها علوم مثل علم النفس، وتفحصتها الفلسفة كمسألة علم ـ معرفية، أفضت في النهاية إلى تأسيس إطار نظري مهد فيما بعد لاتفاقية دولية لتحريم الرق بكل أنواعه، وسن قوانين وطنية مانعة لنظام الرق بما يشكله من أذى نفسي وقهر اجتماعي، بل وصل الأمر إلى تربية الكائن الإنساني تربية خاصة كي يكون مملوكا قدره أن يعيش طيلة حياته عبدا، ويورث هذا القدر لسلالته مثلما تورث الجينات.

حين جاء الإسلام، منع أو حرم الكثير من التقاليد والسلوكات، مثل الربا، وأكل لحم الخنزير، والزنى، ولعب القمار وغيرها، لكنه لم يحرم أشنع ما يمكن أن يرتكبه الإنسان ضد أخيه الإنسان وهو الرق، وما يترتب عنه من بيع للبشر في سوق النخاسة مثلما تباع البهائم. وكان الأمر غريبا بعض الشي، والمفسرون دخلوا من باب اجتماعي واقتصادي لتفسير هذا الاستثناء المثير لأسئلة أخلاقية، معتبرين أن تحرير العبيد والإماء فجأة كان سيسبب مشاكل اجتماعية واقتصادية، باعتبار أن عددهم الهائل لا يجيد سوى مهنة أن يكون عبدا أو أَمة. وفي النهاية ما حرم الرق ليست الرسائل السماوية، لكن القوانين الأرضية التي أنتجها الترقي الإنساني، وهيأ الأرضية لها فلاسفة ومفكرون وعلماء اجتماع.

مقالة الككلي، تطل على ملاحظة مالكولم التي يصفها بالدقيقة من زاوية اجتماعية أو منظور طبقي، وليست أخلاقية، كما يستدرك، باعتبار الوضع الطبقي يصوغ، أو على الأقل يوجه، بشكل عام نفسية الفرد، ويؤطر رؤيته إلى العالم وإلى علاقته هو نفسه بالعالم.

غير أن فهم هيغل الذي لا يتوقف عند قراءة سيكولوجية العبد، ويذهب لتحليل سيكولوجية السيد أيضا من خلال هذه العلاقة، ينطلق من أن الحياة الأخلاقية والسياسية ليست مسألة ذوات بشرية واعية تتفاعل مع الأشياء بل ترتبط بعلاقة وعي (أو صورة وعي) بآخر (أو حتى بذاته).

علاقة المرء بحجر ما ليست أخلاقية ولا سياسية؛ لكن علاقة وعي بآخر أخلاقية وسياسية. وحسب سردية هيغل، حين يتقابل وعيان (فرديان أو جمعيان) أول مرة، ينشأ بينهما نوع من الصراع المدمر.

أحدهما يتغلب على الآخر، فيطلب اعترافا من التابع بحرية السيد وتفوقه. في البداية لا يستطيع المهيمَن عليه أو المستعبَد فهم نفسه إلا عبر عيون السيد - أي كما يراه السيد، بوصفه موضوعا وأداة ترتهن كليا للسيد.

ولكن بالتدريج تنقلب الطاولة. يصبح العبد واعيا باستقلاليته عن السيد، لأن السيد لا يستطيع أن يكون سيدا دون أن يعترف العبد بسيادته، ولأن تلبية رغاب السيد تتطلب شُغل العبد ومهارته. ويجد السيد أيضا أن مكانته هشة وصعبة لأن اعتراف العبد بتفوقه مكرَه عليه وغير صادق. ولهذا فإنها قد تتلاشى فجأة، حين تحين الفرصة.

ينطبق هذا الكلام خصوصا على خدم المنازل أكثر من خدم المزارع، نظرا للاحتكاك المباشر اليومي، ونظرا لأن العبد الناجح عليه أن يفهم مزاج وهوى سيده جيدا كي يلبي رغباته دون حتى أن يطلب ذلك. تقر ملاحظة الككلي لهذا الصنف من العبيد الذي يسميه خدم المنازل ــ باعتبار أن الخدم المعنيين عمال سُخرة ــ بأن ثمة نفسية ستتبلور عن التعايش مع هذا الدور الذي عادة ما يبدأه الخادم طفلا مع الأخذ في الاعتبار وضع الرفاه النسبي الذي يجعلهم على قناعة بوضعهم المعيشي والحياتي العام، لأنهم لا يشكلون طبقة أو حتى شريحة اجتماعية من طبقة.

 وتتضافر كل هذه العوامل لخلق إنسان مستسلم لقدره الذي يعتبره طبيعة حياته. لكن مدخل هيجل الذي يذهب إلى قراءة نفسية السيد نفسه المترتبة عن هذا العلاقة، تفضي إلى وضع للسيد لا يقل صعوبة عن وضع عبده بالنظر عميقا في هذا التبادل للمصالح المعقد، بل إن التفاوت المعرفي، بالمفهوم الابستيمي، سيكون في صالح العبد عبر مفارقة غريبة، ما يهبه نوعا من السلطة حتى وإن كانت غير ظاهرة.

في المقابل، كما يفكر هيجل يبدأ العبد في إدراك نفسه بشكل مستقل عن السيد، عبر عيونه، أي العبد، هو نفسه. وهو يقوم بذلك من خلال عمله وتغيير العالم المادي الذي يقطن فيه. يتعلم العبيد مهارة، وانضباطا، وتنسيقا، بل يكتسبون نوعا من التفوق الإبستيمي على السيد لأنهم يتعرفون إلى عالم السيد وعالمهم (فهم في النهاية يعملون ويعيشون في كليهما)، في حين أن السيد مقيد بصومعة النخبة.

اعتبر كيف تعرف خادمة البيت أو منظف المكتب حياة رئيسه وحياته، في حين أن موظِّفه الغني لا يعرف إلا عالمه. ويحدث هذا التحول والنضج في وعي العبد بطريقة مفارقة، لأنه ينبثق عن العمل الذي أجبر السيد العبد عليه. إن ذات ممارسة السيد للهيمنة هي التي تصنع بذور انهيارها".

كثيرا ما يعبر عن العلاقة بين الطغاة وشعوبهم مجازا بعلاقة السيد مع العبيد، بل، كما يقال إن الطاغية لا يصبح طاغيا إلا حين يجد شعبا من العبيد. غير أن تحليل هيجل المفارق يعكس أيضا مفهوم تمرد الشعوب عن سادتها من هذا الفهم التفصيلي لكل ما يتعلق بالطاغية، وبالمقابل عدم فهم الطغاة لشعوبهم لأنهم يعيشون في أبراج النخبة، معتمدين على تقارير مزيفة للرأي العام تقدمه حاشياتهم، وربما هذا ما جعل زين العابدين يقول بعد أن امتلأت الشوارع بالعبيد المتمردين (أنا فهمتكم) وما جعل القذافي يعبر عن استغرابه من ثورة التابعين، بقوله: معقولة، الشعب الليبي لا يحبني؟!

وفي هذه الحالة نرجع لملاحظات مقالات الككلي، حين نجيرها لهذا المجاز السياسي الذي لا يخلو من واقعية فجة، ونقسم الشعوب إلى ما يشبه خدم المنازل وخدم المزارع. فمن يتمردون في الواقع هم أشبه بخدم المزارع، ومن يدافعون عن وضعهم أو يحنون إلى السيد هم أشبه بخدم المنازل، وباعتبار خدم المنازل ألفوا هذه الحياة أفرادا واستأنسوها "إنهم أفراد مبعثرون غير متاح لهم التواصل مع بعضهم على نحو واسع بحيث يمكن أن يشكلوا قوة".

كما يفسر الككلي. وأُضيف، أنهم تلقوا تربية صارمة ليكونوا هكذا ولا يتصورون معيشتهم خارج هذه العلاقة، وهي السيكولوجية أو التربية الصارمة التي تجعل البعض يرفضون الانشقاق عن السيد (الطاغية)، والكثيرين يحنون إلى زمانه بالنظر إلى "الرفاه النسبي الذي يجعلهم على قناعة بوضعهم المعيشي والحياتي العام"، كما يقر الككلي.

من جانب آخر "فإن تجمع خدم المزارع الكثيف في الحقول والمزارع يتيح لهم فرصة التواصل المباشر على نطاق واسع وتشكيل شبكة من عمليات الاتصال السرية، ومجمل هذا التواصل ينمي وعيهم بموقعهم المهم، ويتيح فرصة أن يخرج من بينهم قادة ومنظمون يبلورون نضالاتهم ضد القمع والاستغلال.".

ينهي الككلي مقالته بهذه الفحوى السياسية التي تحيلنا إلى مجاز التعبير عن الشعوب والطغاة بالسادة والعبيد. والتي يصلها تحليل هيجل من باب المعرفة بين الذوات التي تشكلها هذه العلاقة، ويشير المؤلفان فوسل وباغيني، إلى ان سردية هيجل ألهمت الكثير من الفلاسفة والمصلحين حيث وجد الماركسيون في هذا الجدل علاقة هيمنة وتبعية لا تنتهي إلا عبر نظام شيوعي اجتماعي مساواتي وخال من الطبقات. كما وجدت سيمون دي بوفوار ونسويون آخرون الجدل بين الرجال والنساء في المجتمعات الأبوية والوعد بنظام اجتماعي وسياسي غيرـ جنسي وعدل جندري، أما أصحاب المنظور الإبستيمولوجي فقد ركّزوا على طريقة هيغل في تفسير الكيفية التي يمكن للتابع أن يحقق بها فهما مميزا، وأحيانا متفوقا، للنظام الذي يشغل.

غير أنه عند هيغل بديل آخر، يختزله المؤلفان في الاعتراف المساواتي المتبادل "يمكن لجدل السيد/ العبد أن ينتهي حين يصبح الطرفان أحرارا وكائنات متساوية تتفاعل على طريقة المواطنين الأحرار. وإلى أن يحدث ذلك، سوف يعاني الوعي لدي الطرفين من نوع من الشقاء الخانق.