Atwasat

التاريخ بين المؤرخين والمبدعين

جمعة بوكليب الخميس 15 يوليو 2021, 10:08 صباحا
جمعة بوكليب

قرأتُ، في الفترة الأخيرة، رواية فرنسية، بعنــوان: «في الليل، كل الدم أسود - At night, all blood is black، صدرت العام 2018، لكاتب فرنسي، من أب سنغالي وأم فرنسية، اسمه ديفيد ديوب، من مواليد العام 1966. الرواية ترجمت مؤخراً إلى اللغة الإنجليزية، وفازت بجائزة أحسن ترجمة، كما فازت بجائزة البوكر العالمية لهذا العام، وعدة جوائز أخرى مرموقة. وهي رواية صغيرة الحجم - Novella - عدد صفحاتها 145، من القَطع الصغير. وقرأتُها في جلستين. الرواية متميزة بحق على مستوى الشكل والمضمون، ومحزنة وممتعة في آن معاً.

وتدور أحداثها حول ما عرف باسم «الفرقة السنغالية»، التي حاربت مع الجيش الفرنسي ضد الألمان، في الحرب العالمية الأولى. الفرقة، في الأصل، مكونة من أفارقة ينتمون إلى عدة دول في غرب أفريقيا، لكنها اشتهرت باسم الفرقة السنغالية. الكاتب ديفيد ديوب أستاذ أكاديمي، تخصص في تاريخ الأدب في القرن التاسع عشر، ويدرس بإحدى الجامعات الفرنسية.

وذكر في مقابلات عديدة مع عدة صحف بريطانية أن موضوع المجندين الأفارقة المنسيين، الذين عملوا في الجيش الفرنسي، شغله لفترة طويلة، وسمع عنه في السنغال الكثير من الحكايات. وأنه قبل كتابة الرواية، شغل بالبحث وبالاطلاع ودراسة الرسائل المرسلة من جنود حاربوا في الحرب العالمية الأولى إلى أهاليهم. وكلهم جنود فرنسيون، بيض لون البشرة، وليس بين الرسائل ما يدل على وجود الأفارقة في الحرب.

بمعنى أن الأرشيف الفرنسي لم يهتم بأرشفة رسائلهم كما فعل مع رسائل الجنود الفرنسيين. وقد يعود الأمر، في رأيي الشخصي، لعدم وجود رسائل أصلاً كتبها وأرسلها أولئك الجنود الأفارقة، نظراً لانتشار الأمية بينهم. وربما الأمران معاً.

ومن المفيد، في هذا السياق، الإشارة إلى أن بطل الرواية شاب ريفي أمي، ولا يجيد التحدث باللغة الفرنسية.

أود أن أسجل بعض الملاحظات الشخصية، أثارتها في ذهني رواية ديوب، بغرض أن ألفت إليها اهتمام المهتمين من القراء.
1- الملاحظ أن حركة الترجمة الأدبية من اللغات الأخرى إلى اللغة الإنجليزية قد نشطت في بريطانيا، خلال السنوات القليلة الماضية، بشكل ملحوظ، نتيجة لازدياد الاهتمام بالنشاط الإبداعي خارج دائرة الأدب المكتوب باللغة الإنجليزية. هذا النشاط الملحوظ مؤخراً في مجال الترجمة، أتاح فرصة أمام القراء باللغة الإنجليزية ليطلعوا على آداب الأمم الأخرى، مما أحدث تغيراً نوعياً في نظرتهم إليه. بعض الكتاب والنقاد، الذين اطلعت على آرائهم في الخصوص، أعترفوا بذلك صراحة.

2- الوقائع والأحداث مادة التاريخ. والخيال مادة الإبداع. وما لا توفره الوثائق، أو يخفيه المؤرخون عمداً، يدفع بالمبدعين من الكتاب إلى البحث عنه، وكشفه، وسد الهوة، من دون الإخلال بالسياق المنطقي للأحداث، وبجمال. لجوء كتاب الدول المستعمرة إلى كشف الغطاء عما أخفاه مؤرخو الدول الاستعمارية، لدوافع معروفة، يأتي ضمن هذا السياق.

الروائي المرحوم أحمد أبراهيم الفقيه، على سبيل المثال لا الحصر، كتب روايته الطويلة المعنونة «خرائط الروح» مقتفياً أثر المجندين الليبيين الذين جندهم الاستعمار الإيطالي قسراً، وأرسل بهم إلى ساحة حرب بعيدة، في إثيوبيا.

وأخفتهم الوثائق الإيطالية وتجاهلهم المؤرخون الإيطاليون. ومثله، التجأ الروائي صالح السنوسي إلى اقتفاء أثر الأسرى الليبيين من المجاهدين الذين، عقب الاحتلال مباشرة، نقلوا وسجنوا في إيطاليا، في روايته الأخيرة «الهروب من جزيرة كورسيكا». رواية ديفيد ديوب تتبع نفس النهج، وتسير على نفس الطريق، وتكشف ما أغلقت دونه الأبواب، في الأراشيف الغربية.

3- التاريخ يكتبه ويوثقه مؤرخون من كل التوجهات والأيديولوجيات. لذلك، يمنحون أنفسهم حق تفسيره وفق رؤاهم ومصالحهم ومصالح دولهم. ولذلك السبب، تختلف التفسيرات، وتتناقض حول نفس الوقائع أحياناً.

وحين يتصدى روائي لخوض مغامرة نفض غبار عن حادثة تاريخية، فنياً وجمالياً، يسير في طريق معاكس للمؤرخين. لذلك، تكتسب شهادته مصداقية مميزة عن شهاداتهم. ما يتجاهله المؤرخون أو يخفونه عمداً، يستقطب اهتمام الروائي: الهدف هو كشف الغطاء المضروب حول الحقائق المخفية.

4- حين يتم إخفاء الحقائق، تتداخل الوقائع التاريخية بالخيال عادة. وهذا لا يمنع من القول إن الخيال ليس حكراً على المبدعين. المؤرخون، في الماضي، كانوا يلجؤون إلى الخيال. ويخلطون بينه وبين الوقائع باسم الحقيقة، لتمرير أكاذيبهم.

5- أتمنى أن تجد رواية ديفيد ديوب طريقها إلى الترجمة باللغة العربية في أقرب وقت ممكن، كي يتمكن قراء العربية من الاطلاع عليها.