Atwasat

المؤسسون الجدد وعملية الأخذ والأخذ

سالم العوكلي الثلاثاء 13 يوليو 2021, 09:42 صباحا
سالم العوكلي

وأنا أطالع كتاب أدريان بيلت*، مازلت أعثر على تشابهات تصل إلى درجة التطابق؛ في بعض الوقائع وما يحيط بها، بين فترة التأسيس للدولة قبل سبعين عاما وبين ما يحدث الآن، ورغم أن المقارنة غير وجيهة من جوانب أخرى بعد المتغيرات الكبيرة التي مر بها المجتمع ومحيطه الإقليمي والعالم، إلا أن ثمة طبائع بنيوية، أو نوازع جوهرية ظلت صامدة حتى وإن خمدت فترة تحت الرماد، أو تحت ثقل العسف السياسي وضغط الاقتصاد الريعي المركزي، وكثيرا ما عبر هذا المكبوت عن نفسه، آنذاك، في جلسات المؤتمرات الشعبية الأساسية، أو المؤتمر الشعبي العام والشكوى الدائمة من تهميش الأطراف، أو في تلوين السلطات التنفيذية بمبدأ المحاصصة الجهوية، بل وظهر هذا المكبوت حتى في المهرجانات المسرحية، ودوريات كرة القدم، وتشكيلة المنتخب الوطني، أو حتى في سهراتنا المعربدة من باب المزاح الذي لا يخلو من نفحة جدية.

كنت دائما في طرابلس أكنى بالشرقاوي، وهي الصفة نفسها التي كنا نطلقها في الشرق على العامل المصري المقيم بيننا، وفي درنة كنت أكنى بالبدوي أو اللفو، وحين أذهب إلى قريتي أكنى بالحضري، ونتيجة هذه التحولات في الهوية الصغيرة كتبت مرة مقالة بعنوان (أنا خارج المكان).

عطفا على المقالة السابقة، وعلى مقالتي الصديقين، صالح السنوسي وعمر الككلي، في جدلهما حول تسلل الخطاب الجهوي داخل هيأة صياغة الدستور وانعكاساته فيما يخص الحقوق، فإن الاستقطاب الجهوي كان محتدما منذ بداية تأسيس الدولة الليبية، بعد صدور قرار الأمم المتحدة باستقلال ليبيا، وجاء المفوض أدريان بيلت صحبة فريقه لتنفيذ متطلبات القرار الأممي وفق شروطه الثلاثة "الوحدة، والاستقلال، وحق تقرير المصير للشعب".

غير أنه قابل هذا الاستقطاب الجهوي الحاد وتعامل معه بحنكة، ولإنجاز المهمة التي كانت شبه مستحيلة شُكِّلت أجسام انطلقت كلها من التوازن الجهوي، إلى أن وصلت إلى لجنة الستين، 20 عضوا من كل إقليم. كانت اللجنة برئاسة مفتي الديار أبو الإسعاد العالم، وكان الملك المسمى ينحدر من خلفية دينية، ورغم ذلك كان الدستور ذا مسحة علمانية، لم يرد فيه ذكر للشريعة كمصدر أوحد للتشريع، ومراعيا حقوق الأقليات الدينية والمذهبية آنذاك، ورغم عدم وجود هذه الأقليات الآن بعد أن رُبطت الجنسية الليبية بالهوية الدينية، إلا أن مفهوم "حرية العقيدة" يذهب تفسيره إلى حرية الآراء والأفكار كسند أساسي لحرية التعبير.

والفارق بين ما حصل في تلك الفترة وما ذهبت إليه هيأة صياغة الدستور بعد انتفاضة فبراير، أن ممثلي الدين أنفسهم في ذلك الوقت كانوا ضد تسييس الدين أو دسترته لأنه ضمير شخصي وشأن روحاني يخص الفرد، ولم يكنوا ضمن تنظيم ديني سياسي يسعى إلى السلطة، والجميع كان متوجها لصياغة دستور مدني يؤسس لدولة مدنية دستورية.

وما بين الخوف من انقسام الدولة والخوف من المركزية، توافق الجميع على دستور وحدوي ذي نظام إدراي فيدرالي، وضع السياسات السيادية في يد الحكومة الاتحادية وصلاحيات إدارة الولايات في يد الحكومات الإقليمية.

كانت الجهوية في ذروتها آنذاك والتي أعادها المفوض من خلال تحاليله في الكتاب إلى اسباب تاريخية وجغرافية واقتصادية واجتماعية راسخة ولا يمكن تجاوزها، واستطاع المفوض والنخب الليبية انذاك أن يديروا هذا النزوع بشكل سياسي وبمصطلحات واضحة، وليس كما يتم التحايل الآن على هذا الواقع بقاموس زائف يتحاشي استخدام هذه اللغة الواضحة، وكأنها مفردات إباحية.

بعد 11 عاما من اعتماد الدستور، ونيل البلد لاستقلالها، واعتراف المجتمع الدولي بها، ومع انبثاق الثروة النفطية، بوشر في التفكير في تعديل الدستور لتوحيد البلد، وهو الشأن الذي يصفه المفوض بالتحول الراديكالي، حيث يحلل المؤلف؛ الذي تابع الشأن لسنوات ما بعد الاستقلال، هذا التحول بقوله: "قد تظهر الأحداث أن التحول من نظام إلى آخر كان سريعا، بل راديكاليا جدا.

لو كانت بنود مراجعة الدستور أقل صرامة، لكان التطور أكثر تدريجا.

ومع ذلك، ليس هناك شك في أن التوجه نحو الدولة الموحدة كان قويا منذ البداية وكان لا بد أن يكتسب زخما. لكن هذه قصة أخرى، تدعو إلى دراسة منفصلة".

سبق أن ذكرت أن العامل الأساسي في توحيد الدولة، أو بالأحرى، إيقاف نظامها الفيدرالي، كان ضغط الدول التي لديها شركات نفطية عاملة في ليبيا، ونتيجة شكوى الشركات مما واجهته من بيروقراطية بسبب تداخل صلاحيات الحكومة الاتحادية مع حكومات الولايات المنتشرة فيها خارطة الحقول النفطية، إضافة إلى انتهاز فرصة الفرح الشعبي بالثروة الجديدة وبداية تصديرها لتمرير التعديل الدستوري الذي كان سيكون صعبا قبل ذلك، وكما ذكرت أيضا في مقالات سابقة، ان توحيد الدولة الذي نما في حضن وسواس القومية العربية المتأجج في المنطقة، وضع ليبيا في مهب الانقلاب، خصوصا وهي على متاخمة للظاهرة القومية الناصرية الأبرز قبل أن تنتكس في حرب الـ 67 .

يذكر بيلت في الصفحة 1578 من كتابه، أنه سمع أحيانا "أصدقاء عرب يصرون على أن الطريقة التي جاءت بها الوحدة الليبية من خلال عملية الأخذ والعطاء، من خلال الاحترام المتبادل والتسامح مع مصالح وخصائص بعضها البعض على الرغم من الاختلافات الكبيرة في الحجم والأرقام ودرجة التطور بين الأقاليم الثلاثة، وعن طريق تحويل الأصول القيّمة للدين واللغة والثقافة المشتركة إلى أفضل ميزة ممكنة، قد تكون بمثابة نموذج صغير للوحدة العربية بالمعنى الأوسع للكلمة.".

ويستطرد بيلت قائلا: "إن هذه الفرضية جذابة تثير الكثير من الأسئلة العميقة؛ وللأسف، فإنها تذهب بعيداً إلى المستقبل للسماح بفحصها بشكل مريح في السياق الحالي. من ناحية، فإن الأحداث الدراماتيكية التي وقعت في الشرق الأدنى في يونيو 1967 وتداعياتها الفورية والطويلة الأمد على العلاقات الداخلية والخارجية للعالم العربي، تجعل من الصعب التنبؤ بالتطورات في المرحلة الحالية.".

ولأن بيلت لم يستطع التنبؤ بما سيحصل، فإن الحدث الدراماتيكي المتمثل في النكسة، شكل فيما بعد عاملا مهما لسقوط العرش ونجاح الانقلاب الذي حشد وجد الجماهير في تكية القومية التي يضوع فيها بخور الشعارات الصادحة. بعد النكسة بعامين، رحل الملك المؤسس دون عودة، والذي يعتبره بيلت أحد العوامل الثلاثة التي جعلت مهمة الأمم المتحدة في ليبيا أكثر سهولة:

كان لدى الشعب الليبي قائد سعى دائما للحصول على توجيهه وقبول ذلك التوجيه لسنوات.

ليس لقيمته الجوهرية والروحية فحسب، ولكن أيضا كمحفز نشط للوحدة والاستقلال. ومع اقتراب سنوات الحكم الأجنبي من نهايتها المصيرية، احتشد الناس حوله بأعداد متزايدة.

كانت أهليته بشغل أعلى منصب في الدولة لا جدال فيها. مارس الملك إدريس الأول صلاحياته الملكية لأكثر من 15 عاما، وتغلب على العواصف بشكل مريح، ودائما ما كان يبقي سفينة الدولة في وضع متوازن، ويعدل مسارها باستمرار وفقا للرياح المتغيرة للأوضاع سريعة التطور... ويعتقد المؤلف أن أعظم إنجازات الملك إدريس أنه أعطى لشعبه صورة للأمة وإحساسا متزايدا بالاندماج قويا بما يكفي لخلق رابطة دائمة.".

لكن ما حدث خلال العقود الأخيرة من سوء إدارة هذا المجتمع الذي توحد في البداية طبق دستور، عُطِّل بعد الانقلاب، أن عادت من جديد المخاوف السابقة، وبدأ الاستقطاب الجهوي من جديد، لأن النظام السابق الذي حكم 4 عقودا، دون دستور وبشكل غير شرعي، لم يستطع تحقيق أي نوع من الانصهار الوطني، أو تنمية مكانية وتنويع لمصادر الدخل من شأنها أن تعززه، بل قوض الشعور بالأمة حين جعل ليبيا جزءا صغيرا من أمة عربية او إسلامية أو قارية، ما أدى به إلى محاولات إعلان وحدات اندماجية مع دول مجاورة من طرف واحد، وأفضى فرط الوحدة إلى التفريط في هوية الكيان الموحد من أساسه، وأدمجت ليبيا في سياقات قومية وجغرافية لدرجة اختفت من الخارطة، واختفى اسمها من القاموس الجماهيري، وعادت الظروف نفسها التي ظهرت بعد حكم الفاشية الموسيلينية الأولى مع نهاية حكم الفاشية القذافية الثانية.لكن لم تعد حكمة المؤسسين الأوائل الذين اتقنوا "عملية الأخذ والعطاء" التي جاءت بالوحدة الليبية، وجاء، للأسف، مؤسسون جدد في كل الأجسام التي تصدرت مشهد التأسيس الثاني لا يتقنون سوى (عملية الأخذ والأخذ).

للخروج من هذا النفق، لا حل سوى أن يدار هذا الواقع المزعج، بحكمة وحنكة ومرونة، وتصاغ قاعدة دستورية تستفيد من روح دستور الاستقلال المعدل، يُطمئن المخاوف دون أن يفرط في الحقوق ووحدة الكيان، وينقل المجتمع إلى إرساء نظام ديمقراطي لدولة تتطلع إلى أن تكون جزءا من العصر. وبالطبع، ومنطقيا، هذا لن يفعله من أدخلونا في هذا النفق المعتم ممن، يسيطرون على ملتقى الحوار في جنيف، ويشترون السلطة بالمال الفاسد، ويحمونها بالسلاح الخارج عن القانون.

*كتاب (استقلال ليبيا ـ حالة تفكيك ممنهج للاستعمار) تأليف: أدريان بيلت، مفوض الأمم المتحدة. ترجمة: محمد زاهي المغيربي. منشورات: مجمع ليبيا للدراسات المتقدمة بالتعاون مع: كلام للبحوث والإعلام.