Atwasat

اقتداء الغالب بالمغلوب

عمر أبو القاسم الككلي الأحد 07 سبتمبر 2014, 11:18 صباحا
عمر أبو القاسم الككلي

لابن خلدون عبارة تورد مختصرة تقول: «المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب» يتم التمثل بها في سياق الحديث عن العلاقة بين المستعمَر والمستعمِر، المعبر عنهما هنا بالغالب والمغلوب. ولعل تعبير ابن خلدون هذا أنسب إلى السياق الذي يريد إيضاح فكرته في حيزه، لأنه يحيل إلى بعد نفسي وليس مجرد توصيف حالة واقعية.

يعنون ابن خلدون الفصل الثالث والعشرين من مقدمته الشهيرة بـ: «في أن المغلوب مولع أبدا بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر عوائده» ويعلل ذلك بأن «النفس أبداً تعتقد الكمال في من غلبها وانقادت إليه إما لنظره بالكمال بما وقر عندها من تعظيمه أو لما تغالط به من أن انقيادها ليس لغلب طبيعي إنما هو لكمال الغالب فإذا غالطت بذلك واتصل لها اعتقاداً فانتحلت جميع مذاهب الغالب وتشبهت به، وذلك هو الاقتداء أو لما تراه، والله أعلم، من أن غلب الغالب لها ليس بعصبية ولا قوة بأس لم وإنما هو بما انتحلته من العوائد والمذاهب تغالط أيضاً بذلك عن الغلب وهذا راجع للأول، ولذلك ترى المغلوب يتشبه أبداً بالغالب في ملبسه ومركبه وسلاحه في اتخاذها وأشكالها بل وفي سائر أحواله.»

يخبرنا التاريخ أن الأوربيين الصليبيين الذين سيطروا على مناطق واسعة من بلاد الشام تأثروا بالحضارة الإسلامية.

وهذا التعليل واضح ومتماسك، كما أنه يقبض على مفصل مهم من مفاصل العلاقة بين الغالب والمغلوب، وهو مفصل الاقتداء والتقليد. إلا أننا نرى أن هذه العلاقة أكثر تعقيدا مما ارتآه ابن خلدون. فعلاقة الغالب بالمغلوب ليست وحيدة الاتجاه دائما (بل لعلها نادرا ما تكون كذلك)، إنما هي علاقة تفاعل تميل فيها الكفة، أحيانا، إلى الغالب وأحيانا يكون الأمر عكس ذلك تماما. من الأساس لم تكن ملاحظة ابن خلدون دقيقة.

فقبل ظهور الإسلام بأكثر من قرنين وقع في أوروبا حدث كبير غير مجرى التاريخ الأوربي، ومن المفترض أن ابن خلدون كانت له معرفة ما بهذا الأمر من خلال عيشه في الأندلس التي كانت بها درجة من التفاعل الثقافي بين المسلمين والمسيحيين واليهود، وهذا الحدث هو ما جرى بعد تمكن قبائل القوط والوندال التي كانت تقطن شمال أوروبا من إسقاط الإمبراطورية الرومانية. إذ تبنى الغالبون دين المغلوبين وقدرا كبيرا من ثقافتهم. حيث اعتنق الغالبون في البداية الآريوسية في القرن الرابع. وهي مذهب مسيحي نشأ انطلاقا من شحات (قورينا) الليبية وانتشر في بعض مناطق الشمال الأفريقي، وكان يُعد من قبل الكنيسة الكاثوليكية مذهبا كفريا، وفي نهايات القرن السادس تم اعتناق الكاثوليكية.

لا تكفي الغلبة الناجمة عن التفوق العسكري وحده لأن يقلد المغلوبُ الغالبَ

وفي التاريخ الذي يعرفه ابن خلدون معرفة جيدة، أي التاريخ الإسلامي، كان تعقد هذه العلاقة واضحا منذ البداية. فحين فتح العرب المسلمون مناطق أخرى وبسطوا نفوذهم بالقوة على شعوب أكثر حضارة منهم تأثر الغالبون بالمغلوبين في كثير من النواحي العائدة إلى الحضارة والثقافة، من مثل الدواوين وبعض عوائد الترف في الحياة اليومية والمصنوعات، وحتى الجوانب الفكرية، مثل الفلسفة والمنطق التي وإن كانت يونانية إلا أنهم لم يتلقوها عن اتصال مباشر بالثقافة اليونانية وإنما بواسطة بعض الأقوام الخاضعة لسلطانهم مثل السريان.

ويخبرنا التاريخ أن الأوربيين الصليبيين الذين سيطروا على مناطق واسعة من بلاد الشام من سنة 1096 إلى 1291 تأثروا تأثرا بالغا بالحضارة الإسلامية أقل بكثير من تأثر المسلمين المغلوبين بهم.

وهناك واقعة كبرى في التاريخ الإسلامي أيضا مماثلة لما حدث في أوروبا تشكلت قبل كتابة ابن خلدون مقدمته (1377) بحوالي قرن وهو اعتناق المغول للإسلام بعد اجتياحهم مناطق شاسعة من ممتلكات الخلافة الإسلامية وسيطرتهم على عاصمة الخلافة، بغداد، سنة 1258. ولقد تم هذا التحول بعد 35 سنة فقط.

وفي التاريخ الحديث، حين باءت حملة نابليون على روسيا بالفشل وهزمت فرنسا في هذه الحرب أصبحت النخبة في روسيا المنتصرة على غير ما كانت عليه قبلها نتيجة تأثرها بالحضارة والفكر الفرنسيين، وقد أخذ هذا التأثر يفعل فعله في مجرى التاريخ الروسي.

وإذن، لا تكفي الغلبة الناجمة عن التفوق العسكري وحده لأن يقلد المغلوبُ الغالبَ، إذ لا بد أن تكون هذه الغلبة مدعومة بتفوق حضاري وثقافي. غير ذلك ستنعكس المعادلة وينعكس اتجاه التقليد.

وبهذا نكتشف أن مقولة ابن خلدون ليست قانونا وإنما هي فرضية لا تصمد أمام وقائع تاريخية كبرى، إلا إذا وسعنا معنى "الغلبة" بحيث نُدخل فيه أيضا، إلى جانب الغلبة العسكرية، الغلبة الحضارية، أو، بتعبير آخر، التفوق الحضاري.