Atwasat

تعددت الأسباب والفساد واحد

سالم العوكلي الثلاثاء 06 يوليو 2021, 09:18 صباحا
سالم العوكلي

في مقالته "مشروع الدستور بين الجهوية والدين" المنشورة ببوابة الوسط، يذكر د. صالح السنوسي أن انتخابات الهيأة التأسيسية للدستور "أسفرت عن نتائج أظهرت ما يمكن تسميته خارطة القوى السياسية في هذه الهيئة، وبدا حسب كل ما هو ظاهر من الأسماء، أن التيار المدني هو الأغلبية المطلقة وأن تيار الإسلام السياسي لم يحصل سوى على عدد قليل من الممثلين في هذه الهيئة."

. مُقرا وفق نتائج هذه الانتخابات "أن الغالبية الساحقة من الليبيين يرفضون أطروحات الإسلام السياسي وأنهم اختاروا دولة مدنية لا تقع تحت رحمة الرؤية الدينية المتعلقة بالدولة والسلطة لهذا التيار". 

وعبر تتبع ما حدث من استقطاب داخل الهيأة تشير المقالة إلى أن من يفترض أنهم ممثلو التيار المدني وقعوا في "شرك الجهوية والجهوية المضادة".

أعتقد أن الصراع السياسي في ليبيا، بعد مروره بعدة محطات، انزاح إلى ما وصفته المقالة بالصراع الجهوي الذي نراه الآن محتدما في ملتقى الحوار الليبي بجنيف وهو الجسم الذي اختارته مفوضة الأمم المتحدة بالوكالة وفقا لاعتبارات جهوية.

وفعلا انزاح هذا الصراع إلى محطة الجهوية لكنها لم تكن (شركا)، كما ذهب السنوسي، بقدر ما كانت تكتيكا لتبديل الهويات السياسية كلما فقدت هوية حيويتها واستنفدت طاقتها، من أجل أن يُعطى هذا الصراع المشحصن هالة تمثيلية حتى وإن كانت مزيفة، وبغض النظر عن الإرادة المجتمعية التي عبر عنها الناخبون برفضهم لمن يمثلون تيار الإسلام السياسي، المتمثل في ذاك الوقت في حزب العدالة والبناء، الذراع السياسي لتنظيم الأخوان الدولي، وليس كما يقال جماعة الأخوان الليبية، وبغض النظر عن وصول بعض أفراد هذا التنظيم عن طريق المرشحين الأفراد عبر التكتم عن هوياتهم التنظيمية، إلا أن هذا لا يعني بالضرورة هيمنة التيار المدني على الجسم الناتج عن هذه الانتخابات، والدليل على ذلك أنه، رغم أن ممثلي الإسلام السياسي بكل أطيافه أو درجات تطرفه، شكلوا أقلية في المؤتمر الوطني المنتخب، إلا أنهم ما لبثوا أن هيمنوا على هذا الجسم المنتخب لدرجة أنهم استطاعوا شراء أصوات، مما سماه، د. صالح، التيار المدني، ضد المرشح لرئاسة الوزراء، د. محمود جبريل الذي فازت كتلته بأكثر من 80% من أصوات الناخبين كممثل وقتها لما سمي تحالف القوى الوطنية. .

واستطاع حزب ذو توجهات دينية متطرفة، حزب الوطن برئاسة بالحاج، لم يفز بمقعد واحد في المؤتمر الوطني، أن يسيطر على هذا الجسم عبر تشكيله كتلة داخله سُميت (كتلة الوفاء لدم الشهداء) بما كان لشعار "دم الشهداء" من رنين يدغدغ المشاعر، واستطاعت هذه الكتلة عبر الوعد أو الوعيد، وعبر المال السياسي وغيرها من أساليب السياسة الرخيصة، أن تستقطب عددا كافيا من جميع الأطياف داخل المؤتمر، بمن فيهم أشخاصا سجنوا لسنوت طويلة بتهة انتمائهم للتيار اليساري.

وهذا يعيدنا إلى إعادة قراءة مفاهيم مثل (المدني) أو (الوطني) أو (الأطياف) أو (التيارات) في المشهد السياسي الليبي الذي ينفصل فيه القاموس عن الواقع. هل هذه التسميات تنطبق فعلا، أم أنها مجرد لافتات ظاهرية اقتُبِست من نصوص وبيانات وشعارات وخطب ثورة فبراير لتبدو كأنها مخلصة لأهداف الثورة.

من المهم أن يضع د. صالح السنوسي اصطلاح مدني في مقابل الإسلام السياسي، لأن الكثيرين يقعون في خلط، ويعتبرون التيار المدني مقابلا للتيار العسكري وفقا لهذه الثنائية في اللهجة الدارجة، ليستفيد الإسلام السياسي من هذا الخلط ويلعب لعبته في منطقة الخوف التي صنعها هذا االصراع المغلوط بين الجيش والقوى المدنية، وهذا ما ينطبق عليه توصيف (الشرك) أو (الثغرة) كما يسميها الكاتب عمر الككلي في مقالته "ثغرة الجهوية والإسلام السياسي"، التي جعلت الإسلام السياسي في مفارقة غريبة ينضم إلى التيار المدني في مواجهة العسكر.

وبالتالي فتسمية المدني، أو التيار المدني، أو الدولة المدنية، أو حتى الزواج المدني، نشأت في الثقافة الغربية في كنف العلمانية التي فصلت الدين عن الدولة أو عن المجال الاجتماعي العام، وبالتالي عن النصوص الدستورية أو القوانين.

هذا من جانب، ومن جانب آخر، فإن تسمية تيار مدني في ليبيا مازالت غير صحيحة أو غير دقيقية، لأن الكثيرين ممن ليسوا في تنظيمات الإسلام السياسي، كانوا مصرين بدروهم على تثبيت مواد تتعلق بالشريعة، وبالإسلام دين الدولة، في نص الدستور، من باب دغدغة الوجدان الشعبي الذي يرفض في أغلبه التنظيمات الإسلامية الرسمية، وفي الوقت نفسه يعتقد نظريا في ما تحمل من شعارات ورؤى، والفارق، عموما، بين كل هذه التدرجات الورعة في النظرة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية، وبين داعش كأقصى درجات تطرفها، هي الوسائل المختارة لتنفيذ مشروع (الدولة الإسلامية).

يشير الككلي في صدد مجادلته لمقالة السنوسي داعما ما وصلت إليه من نتائج، إلى أن (الانقسام الجهوي ) الذي استعر داخل ما سماه التيار المدني ، إلى أنه "في استعار هذا الانقسام بين جناحي التيار المدني أصبحت قضايا "مدنية الدولة والحقوق والحريات ليست محور الاهتمام الأكبر، بل أصبح كل طرف يبحث عن حليف يسنده عندما تأتي مرحلة التصويت بصرف النظر عن خطورة أطروحات هذا الحليف على مفهوم الدولة المدنية وما تمثله من حقوق وحريات".

ورغم أن هذا التوصيف يفسر جزءا من الظاهرة إلا أنه يعيدنا إلى بعض من التأمل في مفهوم (التيار المدني)، وهل ينطبق هذا التوصيف على من كانوا في الهيأة ولا ينتمون تنظيميا إلى ما يسمى الإسلام السياسي الذي كان يشكل أقلية داخل الهيأة .

لهذا السبب ولما ذكره الككلي، فإننا لا نرى نقدا لهذا التوجه في مشروع الدستور إلا عند قليل من النخبة المثقفة التي تعبر عنه عبر كتاباتها المتفرقة، ولم يتحول هذا النقد إلى أي نوع من أنواع الرأي العام، أو ينعكس في برامج تيارات سياسية تعمل ضمن المشهد، لذك كان الجدل داخل الهياة وحتى خارجها متجها في أغلبه إلى المواد التي تتعلق بشكل الدولة، وتوزيع الثروة، والرهاب من المركزية، ما حوله إلى استقطاب جهوي.

واستغل بعض المنتخبين في هياة الدستور هذا الشجن الشعبي ليشعلوا جدلا جهويا داخل اللجنة بعد أن فقدت الانتماءات الشكلية القديمة لمعانها، لتحل محلها هذه التوجهات الجهوية التي تسيطر الآن على ملتقى الحوار الليبي المنعقد في جنيف، والمسيطرة على المبادرات المختلفة وعلى مخرجاتها من سلطات متعاقبة تحاول أن تهديء من روع هذا الاستقطاب الجهوي عبر توزيع الحقائب والمناصب، لنجد أنفسنا في الحالة نفسها عندما كانت مثل هذه الحوارات تسعى، منذ العام 1949 إلى نهاية العام 1951، لاستقلال ليبيا ولصياغة قاعدة دستورية للدولة المستقلة، وانقسمت لجنتها بين تيار وحدوي ينطلق من خوف على قوة المركز التاريخي الذي مثلته طرابلس وبعض النخب من الشبان الحضريين في الشرق، وتيار فيدرالي مثله إقليما فزان وبرقة وبعض قبائل محيط طرابلس.

غير أن وجود شخصيات قيادية في ذلك الوقت، محنكة وتتمتع بكاريزما وتأثير اجتماعي وروحي، استطاع ان يذلل الكثير من العقبات الصعبة أمام مسار معقد لا يسعى لوضع قاعدة دستورية فقط ولكن لنيل استقلال بلد لم تستقل منذ قرون طويلة، وتعاني من ظروف صعبة على كل الصعد، وفي حيز زمني قصير إن لم ينجح هذا المسار خلاله فإن البلد ستفرط في استقلالها وتعود تحت وصايات الدول االمتصارعة على إرث الفاشية، حيث كان مشروع بيفين سفورزا مازال ينتظر في أرفف الجمعية العامة ليعود للتصويت من جديد إذا أخفق الليبيون، بمساعدة المفوض وفريقه، في أن يصلوا إلى تنفيذ قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في الموعد المحدد بتاريخ 1 يناير 1952.

ورغم هذا الصراع الجهوي الحاد، والذي تميز باستخدامه لقاموس سياسي واضح دون مواربة، فإن الاتفاق على نص المادة 21 المتعلقة بحرية العقيدة من مسودة الدستور: "حرية العقيدة مطلقة. وتحترم الدولة جميع الأديان والمعتقدات، وتكفل لليبيين وللأجانب المقيمين في أراضيها حرية العقيدة والقيام بشعائر الأديان، على أن لا يخل ذلك بالنظام العام ولا ينافي الآداب"، كان ينطلق من الحرص على صون الأقليات الدينية وينطبق حتى على العقائد الفكرية، ما يؤكد أن حتى الرؤى الجهوية وقتها كانت تنطلق من اعتبارات سياسية قائمة ومصالح إقليمية، وليس من كراهية أو شحن عنصري كما يحدث الآن غالبا، بل إن الجدال حول حقوق الأقليات وصل إلى اعتبار أن اليهود ليسوا أقلية لكنهم ليبيون أصيلون.

لم يكن وقتها ثَمّ ثروة يدور حولها الصراع، ولم يكن أحد على علم بمستقبل ليبيا النفطي أو خارطته الجغرافية، لكن هذا الجدال الحاد بين الأقاليم كان عائدا لأسباب يمكن تفهمها في ذلك الوقت. بينما الآن، وفي وجود هذه الثروة التي يسيل لها اللعاب والدماء، مع تفشي الفساد، تأخذ الجهوية منحنى آخر يقوده المتورطون في الفساد أو الحالمون بمستقبله. من جانب تتقنع مركزية الفساد بشعار الوحدة الوطنية، ومن جانب آخر، تتقنع مطالب التوزيع العادل لفرص الفساد بمصالح الأقاليم والخوف من المركزية. دون أن ننسى أن الأجسام العليا الحالية التي تشكلت وفق اعتبارات جهوية، وصلت إلى السلطة عن طريق الفساد والرشى.