Atwasat

(طريق بالبو) بين السياسة والابتزاز

سالم العوكلي الثلاثاء 22 يونيو 2021, 03:24 صباحا
سالم العوكلي

بداية، يجوز تأنيث مفردة (طريق) وتذكيرها، ومع أن مزاج اللغة الجمالي يميل إلى تأنيثها، لكني اعتمدتها هنا في الحديث عن (الطريق الساحلي الليبي) مذكرا بكل ما تتسم به الذكورة من قسوة وجفاء وبطركية تنأى بها عن جمال الأنوثة ورقتها وانسيابها.

"طريق بالبو" الساحلي أو Via Balbia) ) يمتد من الحدود الليبية التونسية في أقصى غرب ليبيا إلى الحدود الليبية المصرية في أقصى الشرق. طوله حوالي 1820 كم، وقد تم الانتهاء من إنشائه في عام 1937 ، وسمّي على اسم إيتالو بالبو الحاكم الإيطالي لليبيا آنذاك.

باعتباره أحد بنود اتفاق جنيف، يبرز الطريق الساحلي الليبي في هذه الفترة في الكثير من الحوارات السياسية، والبيانات، ومطالبات المجتمع الدولي بفتحه، ويتحول إلى عقبة أمام التوافق مثلما كان مسارا لكثير من وفود المصالحات الاجتماعية والسياسية. وبقدر ما تملأ آلاف المطبات الإسمنتية هذا الطريق وعلى كل مطب تقف متسولة، تملأ المطبات السياسية طريق ليبيا الشاق إلى السلام والتوافق والمصالحة وكل مطب سياسي يراكم المتسولين أمام المصارف.

ومثلما على جنباته تتكدس أكياس القمامة في بلد لم تقدر حتى الآن على التخلص من نفاياتها، تتكدس نفايات القضايا العالقة على ضفاف الطريق السياسي فتفوح منها رائخة الفساد العفنة.

ومثلما على إسفلته سالت دماء عشرات الألوف من الليبين في حوادث السير، سالت دماء الألوف فوق زفت الطريق السياسي الخالي من التخطيط ووسائل السلامة.

فهذا الطريق الذي يمتد من راس جدير إلى مساعد، ليس مجرد إسفلت يشق رمال وأحراش وجبال هذه الأرض القائظة المترامية، لكنه مُعبّد بدلالات سياسسية وأيديولولجية منذ أن شقه حاكم المستعمرة الليبية، بالبو، لكي تنساب على امتداد شاطئه الرابع آليات ومستوطنات ومقولات الفاشية، ولكي يوحّد مستعمرة ظلت لربع قرن منقسمة في ظل الاحتلال بين هادئة ومهدأة، فهو طريق له ذاكرته الإمبريالية، وله لافتاته الوحدوية التي نبتت على جانبيه.

وعمل في هذا الطريق عشرات الألوف من الليبيين بمقابل رمزي أو بما يشبه عمل السُّخرة، ولقي الكثيرون حتفهم أثناء شقه ولقي الكثيرون حتفهم أثناء سيرهم عليه. وعبر هذا الطريق استطاع بالبو أن يحكم سيطرته على معظم أرجاء الساحل الليبي، ويتواصل مع مكونات المجتمع في الغرب والشرق، ويحشد الجماهير على جنباته في استقبال موسيليني، كما كان مهما لخطته الإستراتيجية في جلب المستوطنين الإيطاليين بعد تجهيز المزارع لهم في الشرق الذي ظل مضطربا لمدة 20 سنة.

وأراد بالبو "تعويض الزمن الضائع بتكثيف الهجرة الإيطالية إلى ليبيا وترسيخ الوجود الإيطالي وتحقيق الحلم الذي راود المستعمرين الإيطاليين منذ عام 1911م، وقررت روما في هذه المرحلة، الإنفاق على توطين المعمرين في ليبيا واستقرارهم، وأن تجهز لهم الأرض والسكن والأدوات الزراعية والحيوانات وراتباً شهرياً يسد حاجة المستعمر إلى أن يستطيع الوقوف على قدميه، ويصبح مالكاً للمزرعة بعد عشرين عاماً أو أقل".

وحين ظهرت بوادر هزيمة دول المحور أمام زحف الحلفاء من الشرق، أصدرت السلطات الإيطالية أمرا لكل المستوطنين الإيطاليين للانسحاب من الشرق إلى طرابلس عبر هذا الطريق، وطيلة سنوات الوصاية الإنجليزية كانت هذه الأقلية المتمركزة في طرابلس وضواحيها تطالب بحقوقها بعد معاهدة السلام مع إيطاليا، وتضغط لتمثيلها في كل الأجسام المقترحة لتنفيذ قرار استقلال ليبيا رقم 289 (4) الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة؛ بعد أن فشل مشروع بيفين سفورزا وكل المبادرات التي تسعى لوضع أقاليم ليبيا تحت وصايات الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية.

وظل هذا الطريق الرابط بين غرب وشرق ليبيا شريانا اقتصاديا واجتماعيا تتنقل عبره السلع والمنتجات وصلات الرحم ومواكب الزفاف في الاتجاهين، غير أن بالبو لم يستخدمه في رحلته إلى طبرق يوم 28 يونيو 1940، وفضّلَ استخدام طائرته، فتصدت لها نيران المدفعية الإيطالية في مطار طبرق وأصابتها ليلقى حتفه بما سمي فيما بعد نيرانا صديقة، لكن المحللين يذهبون إلى أنها كانت عملية اغتيال ناجحة وراءها موسيليني الذي طالما أزعحه لمعان نجم منافسه.

كما أن لقاء بالبو، قرب غدامس، مع قائد القوات الفرنسية في شمال أفريقيا شارل نوجيه الذي عبر فيه عن عدم رضاه عن التحالف الألماني الإيطالي، وأن ألمانيا ستهاجم فرنسا بوسائل متقدمة لن تصمد أمامها طويلاً، كان القشة التي قصمت ظهر موسيليني. وربما كانت هذه المعارضة للتحالف سببا يجعل موسوليني يتخلص من بالبو." كما يرد في يوكيبيديا بتصرف.

وإبان ترعرع الفاشية الثانية في ليبيا لقي عضو مجلس قيادة الثورة امحمد المقريف، ووزير العدل إبراهيم بكار حتفهما على إسفلت طريق بالبو.

العام 1967، إبان وزارة حسين مازق ثم البدري، شُرع في إعادة تعبيد وتوسيع هذا الطريق كمرحلة أولى، حيث كان هناك مخطط لتنفيذه كطريق مزدوج في الخطة الخمسية التالية، لكن لم يتم تنفيذ الازدواج بسبب قيام (ثورة) أول سبتمبر 1969 (لم يوسع النظام السابق الطريق الساحلي لكنه ضيّق نوافذ سجون موسيليني).

وفي العام 2008 وقِّعت اتفاقية مع إيطاليا لصيانة الطريق الساحلي كجزء من التعويضات عن الاحتلال، لكن لم يُنجَز هذا المشروع بسبب قيام ثورة 17 فبراير عام 2011 . ومثلما أسهم هذا الطريق في حل إشكاليات سياسية، أسهمت بعض التحولات السياسية في إيقاف تطويره عدة مرات، واستمرت هذه العلاقة الجدلية بين السياسة والطريق حتى لحظتنا الراهنة، حيث تحول مطلب فتح الطريق الساحلي بين مصراتة وسرت، أو كما تصفه وسائل الإعلام "بين الغرب والشرق الليبي" إلى شرط أساسي لنجاح مهمة السلطات الجديدة لتوحيد البلاد والعباد والمؤسسات، غير أن قفله هذه المرة من قبل بعض الميليشيات لا يمكن تحميله بما لايطيق من المعاني السياسية، لأنه جاء في سياق سنوات كان الاختطاف والابتزاز أحد سبل الحصول على المال، فالطريق الذي وحّد به بالبو مستعمرته ليبيا مختطفٌ الآن من الساحل الليبي، ولن يُفرج عنه إلا بمقابل فدية تقدر بمئات الملايين، ولعل هذه العناوين المختارة من وسائط إعلامية عديدة تشي بطبيعة هذا القطع لشريان الحياة في الجسد الليبي، وعرقلة أي بادرة للمصالحة أو التوافق أو توحيد المؤسسات المنقسمة:
ـــ "فتح الطريق الساحلي.. ورقة االميليشيات لابتزاز الحكومة الليبية: لم يفلح وعيد اللجنة العسكرية المشتركة "5+5" بتسمية معرقلي فتح الطريق الساحلي الرابط بين غرب وشرق ليبيا، في إثناء الميليشيات عن استمرارها في "قطع" الطريق، ورفض كل الجهود المحلية والدولية من أجل إنهاء هذا الوضع الذي يكرس لانقسام البلاد".

ـــ "المرتزقة والطريق الساحلي.. مطالب فورية لـ"5+5" الليبية: طالبت اللجنة العسكرية الليبية المشتركة (5+5) بضرورة فتح الطريق الساحلي وإجلاء المرتزقة وتفكيك المجموعات المسلحة. وأوضحت اللجنة العسكرية، في بيان لها ، أنه تم استعراض أهم العراقيل التي تواجه تنفيذ بنود اتفاق جنيف، فيما يخص فتح الطريق الساحلي وإجلاء المرتزقة وتفكيك المجموعات المسلحة.".

ــ "الرئاسي الليبي يوجه بفتح الطريق الساحلي.. فهل تستجيب المليشيات؟: وجّه المجلس الرئاسي الليبي بالبدء الفوري بفتح الطريق الساحلي وتسهيل حركة المرور وتنقل المواطنين بكل سهولة ويسر. جاء ذلك في خطاب وجهه المجلس الرئاسي الليبي بصفته القائد الأعلى للجيش، إلى غرفة عمليات البركان التابعة لحكومة الوفاق سابقا، طالب فيه بإعادة تمركز عناصرها، تمهيدًا للبدء الفوري بفتح الطريق الساحلي.".

ــ "مليشيات الوفاق: فتح الطريق الساحلي مرهون بسداد رواتبنا: نظّم عدد من الشباب والمليشيات المرابطة في أبوقرين وبوابات الطريق الساحلي “مصراتة – أبوقرين” اعتصامًا أمام بوابة الكراريم؛ للمطالبة بحقوقهم من حكومة الوفاق رافضين فتح الطريق".

ــ "أكد رئيس حكومة الوحدة الوطنية الليبية وزير الدفاع، عبدالحميد الدبيبة، وجود «الكثير من التحديات» التي تقف في مسار توحيد الجيش الليبي، لكنه عبر عن نظرته الإيجابية لتحمس الشباب لخدمة وطنهم وشعبهم، فيما كشف مصدر أمني ليبي أن الميليشيات تساوم حكومة الدبيبة من أجل فتح الطريق الساحلي بين سرت ومصراتة، مطالبة بالحصول على«دعم مادي» يقدر بنحو 350 مليون دولار.".

لم أضع مصادر هذه العناوين حفاظا على المساحة، لكن يمكن كتابة كل عنوان في محرك بحث "جوجل" وستظهر مصادر النشر الإلكترونية بكامل إحاطتها، وهذا تغير أتاحته الثورة الرقمية قد يغنينا يوما ما عن الهوامش المربكة.

بعد ساعات من انتهائي من كتابة هذه المقالة جد خبر الشروع في ترتيبات فتح الطريق الساحلي من جهة الغرب، لكنه لن يغير من فحوى المقال شيئا، ولا من مهازل الميليشيات التي ستستمر، وسأورد الخبر كما يلي: تم الإفراج عن الرهينة من قبل العصابة الخاطفة بعد دفع الفدية التي تكتمت السلطات عن قيمتها.

وسيظل تنفيذ بند إخراج المرتزقة الأجنبية من الأراضي الليبية، وإخراح المرتزقة الليبية من المشهد السياسي، مؤجلا إلى أجل غير مسمى حتى الآن.