Atwasat

قبور البسمة

محمد عقيلة العمامي الإثنين 21 يونيو 2021, 09:38 صباحا
محمد عقيلة العمامي

مجلة "ريدرز دايجست Reader's Digest " ظلت من أشهر وأنجح المجلات العالمية، التي تترجم إلى عدد من اللغات، منذ الأربعينيات، وكانت تُترجم إلى اللغة العربية تحت اسم (المختار)، ولا أعتقد أنها مازالت تترجم إلى العربية حتى الآن. كنت، وما زلت مواظبا على قراءتها، لابتعادها تماما عن السياسة، وخطاب الكراهية؛ موضوعاتها عادة ما تتناول المعلومات العامة والطرائف، والتراجم الشخصية للمشاهير وأولئك الذين نجحوا في مختلف المجالات.

ولما أصبحت الآن متوفرة بنسختها الإنجليزية، في فروع وسائل الإعلام ـ السوشيال ميديا-، عُدت لمتابعتها هذا موضوع عن القبور ولكنه مبهج، انتقته وقدمته كاتبة أمريكية اسمها "لورين كان Lauren Cahn" أصبحت، منذ عام 2008 تكتب بانتظام في هذه المجلة وعدد آخر من المجلات الأمريكية، وتتناول مواضيع مختلفة عن الحياة والثقافة الشعبية والقانون والدين والصحة واللياقة البدنية واليوغا، ومعظم مجالات الترفيه، وهي أيضا مؤلفة لروايات الجريمة. موضوعها هذا تناول عددا من أطرف ما كتب على شواهد القبور.

لقد ترجمت منه، ما تتناسب فكاهة التعليق مع الروح العربية، أولا لطرافته، وثانيا لننتبه جميعا إلى أن الكتابة ابتكار، خلق لموضوعات ليست بالضرورة أن تنحصر في الوعظ والإرشاد، وتأجيج الصراع، والنقد المستمر، فالمرء يحتاج بين حين وآخر، لفسحة من الراحة، والاسترخاء والضحك، وهذا الموضوع، على الرغم من كونه عن الموت، الذي ليس بعده موت آخر، نفذه عدد من أموات قبل رحيلهم متطلعين إلى أن يتركوا بسمة خلفهم إلى الذين مازالوا فوق الأرض، بينما هم في جوفها.

تقول الكاتبة: "يعرف البشر أنهم سيرحلون نحو الأبدية، وما بين الميلاد والرحيل ينجز البشر تميزهم، ومعظم شواهد القبور، إما أن تتخطى كتابة هذا التميز، أو تقدمه بعبارات مختصرة بسيطة عن الشخص المدفون أسفله.

النوادر أن بعض المقبورين حددوا، قبل رحيلهم، ما يكتب على شواهد قبورهم، إما لخلق بسمة تذكر الناس بها، أو ليختزل رؤيته في الحياة، أو حتى ملامة على نحو ما.

كنت أعرف أن الروائي اليوناني "نيكوس كازانتزاكيس" طلب أن يكتب على شاهد قبره: "لا أرجو شيئاً، لا أخشى شيئاً، أنا حر" محددا بذلك رأيه الذي جعل الكنيسة ترفض دفنه في مدافن المدينة، فدفن خارجها، وأصبح الآن مزارا.

أول هؤلاء ممن صنعوا "بسمة " من شواهد قبورهم، الذين تناولتهم الكاتبة، أراد فيما يبدو، أن يختزل رؤيته في الحياة، فاكتفى بكتابة: "ها! ها! ها!" على شاهد قبره، التي قد نفسرها أنها ضحكته الأخيرة، أو أنه يريد أن يقول "الحياة مجرد ضحكة "!

أما صاحب شاهد القبر التالي، اسمه "جون يست" فكتب معتذرا لمن يقف أمام قبره: "سامحني لا أستطيع النهوض". ولأن اسمه الثاني "يست Yeast " وهي تعني خميرة، فتضيف الكاتبة متسائلة: "لابد أنك استمعت إلى الكثير من النكت بسبب اسمك الثاني هذا خلال حياتك، ولابد أن لك روحا مرحة، وبالتأكيد هي وراء انتقائك لهذه المزحة".

ولكن شاهد القبر الثالث الذي يقول: "هذا، يا رفاق، كل ما هناك.." انتقته عائلته، لأنها الجملة الشهيرة، التي اشتهر بها صاحب القبر، فهو الفنان "مُركب" الصوت الرائع "ميل بلانك Mel Blanc "، الذي تولى تقديم صوت شخصيات "ولت ديزني" الخيالية: من ذلك الأرنب الذكي، وناقر الخشب، وبقية تلك الشخصيات الكرتونية، والذي غالبا ما ينهي تلك الأفلام الكرتونية بعبارته الشهيرة "That’s all, folks". عندما توفي "بلانك" في عام 1989، حرصت عائلته على التأكد من أن جميع الأجيال القادمة تتذكره وستعرف بالضبط ما اشتهر به في الحياة، هذا الرجل القادر على توظيف العديد من النبرات والأصوات وهو أيضا "الزوج والأب المحبوبان".

أما شاهد القبر الرابع فهو للكوميدي الأمريكي الشهير "ميرف جريفين"، مبدع برنامج "عجلة الحظ Wheel of Fortune" والذي تواصل بثه من عام 1962 إلى 1986، والذي وصف بأنه "رجل الاستعراض الحواري، الأشهر في أمريكا الذي يعرف ماذا يريده الجمهور وجعله من أعمال حياته للترفيه". المعروف عن جريفين أنه كثير المزح، وحدد عبارة واحدة منقوشة على شاهد قبره: "لن أعود بعد هذه الرسالة "، في إشارة إلى عبارته المستخدمة في تقديم الإعلانات التجارية في برنامجه التلفزيوني: "فاصل وسنعود".

شاهد القبر الخامس، في برينستون، نيو جيرسي، وهو للسيد "ويليام إتش هان جونيور" الذي ولد عام 1905 وتوفي عام 1980، وأعد قبره وما يكتب على شاهده بنفسه قبل أسبوع أو أسبوعين من وفاته. وهي عبارة "لقد أخبرتك أنني مريض"، والأرجح أنها رسالة لزوجته، التي يبدو أنها كانت تعتقد أنه يتمارض!

أما الشاهد السادس، فهو للكوميدي المشهور جاك ليمون (1925-2001)، الذي ترك إرثا فاق 50 فيلما ناجحا، ورشح ثمان مرات لجائزة الأوسكار الشهيرة، وفوزه باثنين منها، كتبت تحت اسمه كلمة واحدة هي (IN) وتركت بقية مساحة الشاهد فاضية. و الكلمة تعني، بالطبع بالداخل، أو مثلما نقول محليا (جوا)! أما إن كتبت اسفل إعلان عن فيلم أو مسرحية فتعني أنه من بطلها.

الشاهد السابع فهو للمخرج وكاتب السيناريو الذي حاز ثمان مرات لجائزة ( بيلي وايلدر 1906-2002 Billy Wilder) كتب أكثر من 80 سيناريو للسينما والتلفزيون. لكن يبدو أنه أراد أن يتذكره محبوه ومعجبوه كرجل مبهج ومضحك. فاختار جملة تقول أنه "كاتب ولكن بعد ذلك لا يوجد أحد مثالي" - وهي إشارة إلى السطر الأخير من عمل ساخر ومضحك عنوانه (Some Like It Hot) بمعني البعض يفضلها ساخنة او حامية، وهي إشارة إلى جهنم!

الشاهد الثامن للسيدة فرانسيس إيلين تاتشر كانت محبوبة للغاية من قبل عائلتها وأصدقائها، وصفوا قلبها بالجميل في نعيها عام 2006. ولكنهم لم يذكروا روح الدعابة لديها، والتي يستدل عليها من النقش الموجود على شاهد قبرها: "اللعنة، الظلام حالك هنا". والبحاث يصنفون ما كتبته بالكوميديا السوداء، وأن حب مثل هذه الكوميديا تنم عن عبقرية!
وعلى الشاهد التاسع للدكتور إدوارد راسل جين (Dr. Edward Russell Gann) المتوفي سنة 1983 مكتوب: "أفضل أن أكون أكابلوكا ( (Acapulco وهو منتجع على شاطئ البحر بالمكسيك.

الشاهد العاشر لسيدة اسمها ( باربارا صومنير Barbara Sue Manire ) مكتوب: " Expired - انتهت الصلاحية ".

الشاهد الحادي عشر لطبيب أسنان أسمه (بوث جون ديبي Both John Denby ) وكتب فيه:
(I'm filling my last cavity) وتعني عبأت تجويفي الأخير، في إشارة إلى حشو الأسنان!

الشاهد الثالث عشر، للكاتب (Edward Paul Abbey) الذي صدر له 19 كتابا، وعلى الرغم من أن موهبته في الكتابة لم يجد، فيما يبدو، أفضل من كلمة (No comment - لا تعليق!).

وأنا بدوري أقول: "لا تعليق " من عندي، لأن كل ما قمت به أنني ترجمت، من دون حتى الإشارة إلى شواهد قبورنا، التي ما تزال محل نقاش متصل عن تحليلها وتحريمها!