Atwasat

مثاقفة نقدية مستحقة

رافد علي الأحد 20 يونيو 2021, 09:43 صباحا
رافد علي

من البيّن في تاريخ الدولة العربية القطرية التي قامت بعد حقبة الاستعمار أنها عاشت في ظل واقع مركب ومتناقض من حيث تعاملها مع التقليد والمعاصرة، فقد عملت الدول الناشئة، او دول الاستقلال، على المزج بين التراث السياسي حسب التوجه التقليدي، ومن حيث إقامتها لمؤسساتها العصرية على نسق التنظيم السياسي والإداري، في محاولة منها لمسايرة التدبير العقلاني للصالح العام، والاحتماء بذات اللحظة بالتقليد لتكفل لذاتها الاستمرارية كحارس للتقليد، لأن الدين كان عنصراً حيوياً في خطاب مقاومة المستعمر في جُل حركات التحرر بالعالم العربي والاسلامي.

فالجهود الفكرية العربية المعاصرة منذ مناظرات فرح انطوان والشيخ محمد عبده، والتي شكلت في حد ذاتها منعرجاً في الكتابة السياسية العربية، والطرح الفكري لشأن الدولة والسلطان؛ لم تمنح ثمارها السياسية الرامية للاختيار الليبرالي كممارسة ملموسة، ولا في استمرار التفكير فيه بشكل حيوي ومثابر، ومرد ذلك لأن منظومة الفكر السياسي، حتي ضمن كتابات الطنطاوي وخيرالدين التونسي قبل الجميع، ظلت محكومة، أو مقيدة، بالمرجعية التقليدية، مما سبب ازدواجية في الفكر والواقع، وعاب هذا الازدواج الخطاب الرسمي ببلداننا على مدى عقود الجمود السياسي الداخلي التي ظلت فيه الحريات محاصرة، أو مُتهجما عليها باستمرار.

فمقالات فرح انطوان التحررية، ودفاع الشيخ علي عبدالرازق عن دنيوية الخلافة والمُلك في الإسلام بقيت أثارهما محدودة، وقد أطلق على هذا التيار من الفكر المتحرر لدينا من قبل أهل التقليد وصف "الدهريون" للتعيير أو للذم، بل لم يتوان البعض بنقدهم باعتبارهم روحا تغريبية متحللة من نعرة الشرق المحافظة، مما سمح بالقدح فيهم علي نطاق واسع، وتم رمي أصوات الليبرالية بالشبهات كالتبعية والعمالة. فالشيخ علي عبدالرازق، الذي حُكم عليه، وفُصل من وظيفته، قد توارى بالتالي خطابه الآتي من داخل الصف الديني، وظل خطاب فرح انطوان يتيماً ولم ينجح في تشكيل تيار حقيقي وقوي، بل ظل حالة ترسم أفقاً بعيداً للعرب في الفكر السياسي.

لا شك أن القرن الماضي قد زخر بأسماء لرجال الفكر، ضمن نسق تطور العلوم الاجتماعية ومناهجها التحليلية، الذين انكبوا بالدراسة والتحليل والنقد على قضايا العصر كالعلمانية والمعاصرة مثل هشام جعيط ومحمد أركون وفؤاد زكريا وعبدالله العروي وناصف نصّار، وغيرهم، كلاً حسب منهجه وأسلوبه وميولاته في خلق مثاقفة نقدية بين الواقع العربي المشحون بتراث مقدس، وبين الفكر الساعي للتجديد أو "المعاصرة"، إلا أن المثاقفة النقدية لدينا ظلت تحوم في حيز محدود بسبب سطوة التقليدية أو لاستبداد التراث كما يعبر محمد الجابري.

المفكر التونسي هشام جعيط، الذي انتقل لرحمة الله مؤخراً، يرى أن محاولة تجديد الفكر الإسلامي كان لابد أن تمر بعقبات، ففي ظل تراجع الحضارة الإسلامية، يرى جعيط، أن الدين كان "كبش محرقة" حين استخدم من قبل أهل التشدد والتطرف في مواجهة الاستعمار لإثبات الوجود في مواجهة الغرب والحداثة، في لحظة لم يكن هناك فيها متسع رحب للفكر الديني في أن يعطي مشاركته لرسم مرحلة ما بعد الاستعمار. فدعوة المرحوم جعيط الجريئة للعلمنة تأتي من خلال تأصيله النظري للعلاقة بين الإسلام والغرب، ففي كتابه أوربا والإسلام، يبدو جلياً نداء الرجل بإلى ستيعاب الحضارة الغربية المعاصرة من دون التنكر لمقومات الذات أو التخلي عن "الشخصية المسلمة"، بما يفند الفكرة المستشرية اليوم بالعالم كون الإسلام هوية سياسية تسعى الإسلاموفوبيا لترويجها في الغرب عبر منابر اليمين المتطرف، أو في خطاب اليمين لجماهيره، مع مراعاة الحدة والنوعية لكل خطاب.

لا شك في أن تراثنا العربي عموما، والإسلامي تحديداً يبقي إرثا تاريخيا توارثناه، كأي إرث في العالم عبر أجيال بكل ما له، وبما عليه، كأي معطى تاريخي، إلا أن غياب الروح النقدية للتراث وللتاريخ هي التي تكرس استبداده، وتجعل الكذب علي التاريخ ممكناً وسهلاً، تماماً كما يفعل التخدير الإيديولوجي لعقول الأحياء بكذبه وسلاسته بأن يقصي الآخر ويشيطنه ضمن تدابيره في احتكار اليقين، وخلق المُهرطق.

محمد أركون في مشروعه الفكري لم يتبن النزعة التغريبية في خطابه، إذ كان يلح دائماً على تفكيك وتشخيص علاقة الإسلام بأصول الحكم، بما يعكس وعيه بضرورة الاستمرار بالعمل على نهج الشيخ عبدالرازق من خلال التماس روح حرة "ليبرالية" في الفكر العربي المعاصر ذاته، وضمن مشروعه الفكري في تأصيل المفاهيم والأساس. فأركون رغم النقد الذي يوجه إليه في عالمنا العربي بالتغريب مرة والإلحاد في أخريات، وجب الإشارة إلى انه كان ينتقد العلمانية في الغرب وعصر التنوير من منظور ما بعد الحداثة وبطريقته الخاصة، بعكس الاعتقاد الرائج بأنه كان يركب موجة التغريب لكونه يعيش بالغرب ويكتب بغير العربية.

العلمانية في الغرب ليست نظاماً واحدا تحصنه دساتير تلك الأمم، وتعمل ضمنه إدارات الدول، فالمفردة علمانية تختلف في اللغات اللاتينية عنها فى غيرها كالإنجليزية. فالفرنكوفون يستخدمون مفردة Laicite في حين نجد مفردة Secularism في الانجليزية، وهذا حتماً يعكس الفارق في الدلالة، لا اللفظية فقط، ولكن أيضاً يقدم فارقا في الدلالة التاريخية للمفردة رغم اشتراك اللغتين في جذور لغوية لاتينية عديدة، معروفة ومتداولة.

فمن الواجب علينا، كآخر هنا، النظر والتفحص قبل الهجوم المباشر بالقول إن العلمانية حالة فصل تعسفي للديني عن السياسي، او لفصل للتاريخي عن المقدس. فسياقات الثقافة والتاريخ تفرض نفسها عند التحليل المقارن، ووجب كذلك التروي قبل بث الأحكام، أو اجترارها، لأن التروي اليقظ بمحنة العصر يوفر فسحة للبحث والتعقل، ولعل للمجتهد منا هنا أن يجد فيها منفذاً لأن يستخلص روحا حرة "ليبرالية" عربية أو إسلامية تسمح بتأصيل لعلمانية لنا باعتبارنا أمة تطلب العلم "ولو في الصين".

فتحليل الذات عبر التاريخانية، كما يطالب العروي، شئ يستوجبه العقل والمنطق.

من ضمن إشكاليتنا كأمة أننا انخرطنا في مسيرة الصراعات السياسية منذ الفتنة الأولى إلى اليوم، نتوارث فيها الخصومات، فكرية واجتهادية بلا توقف، متبنين فيها جميعاً مواقف السابقين والسلف، وكأنها صراعات الحاضر، وبلا أن نتدبر حالنا الراهن بكل الضعف والضياع الذي يعمنا، وبلا إدراك منا للأسف لانعدام نتائج جوهرية رغم طول أمد هذا النزاع أو الخصومة بسبب عماء بصيرتنا في تاريخنا ذاته التي يتجلي فيها التعالي بالسياسة تارة، وتسيس المتعالي تارات كثيرة للأسف الشديد. فهذا الاستمرار المتوارث في النزاع والخصومة بين السلف وعداهم- وبالعكس- يسلب عن فكرة "الإصلاح" -عند الطرفين- جوهرها الراسخ، وهو تجاوز خلافات الماضي، والتوجه نحو غدٍ أفضل، بما يصون شخصيتنا ويحمي هويتنا، ويحفظنا من شرور أنفسنا في ديمومة الصراع الدامي والتلاشي الحضاري العقيم.