Atwasat

السيرة نسج العنكبوت

أحمد الفيتوري الثلاثاء 15 يونيو 2021, 09:23 صباحا
أحمد الفيتوري

(1)
قرأت فيما انصرم من أيام، سير ذاتية عدة منها : سيرة ساخرة للمفكر السوري " أبو على ياسين "، ومذكرات الشابي، ووقدات عبد الله القويري، وكتبت سيرة بنى غازي .

هل السيرة الذاتية وثيقة موضوع ، صورة أشعةx ، خطاطة "اسكتش"، وبالتالي مستند ومرجع، كما خيوط العنكبوت، دليل قاطع لكل محقق علمى بحت وقانوني؟، أم لوحة تشكيلية، ولعبة طفلية، تستمد قوتها

من تماسكها الداخلي، كما هي الرواية ، وكما كل لعبة ؛ غش وخداع يخفي شيئا أكثر أهمية؟.
تبدو هذه الموضوعة شائكة، لهذا اشتبكت فيما طالعت من سير، ما ظهرت لى مرة وثيقة دامغة، وفي مرة أخرى كريستال: في لحظة ما تبين لي، وعلى حين غرة، وبشيء من الذهول، أنه كان يستحضر عيني المعري، من فقد البصر وهو في سن الرابعة، فتبين لي أن الخيام عمر، نظر إلى العالم وأنشأ شعره، بعيني أبي العلاء. لقد حذا حذوه ومشى على أثره، ووطأ بلطف جسده المسجى، مع الإيماء إلى العينين الغائبتين، فكأني وجدت في عيني المعري، كل سيرة ذاتية: الظلمة المضيئة، أو بصيغة جوته: كلما اشتد الضؤ اشتدت الظلال.

كأني نهجت غير نهج، فالتبس الموضوع، وأن ما صح فيما نهجت، ينضح فصيحا، بأن السيرة الذاتية كتابة إبداعية سردية، فلم نتبين فروقا محددة بين الرواية، خاصة الرواية السيروية، وهذه الكتابة السيروية الذاتية. هناك تداخل ما، كما هناك تقاطع، دون جزم مغلق، فيما هناك من تباين، فالكتابة كتابة، غير أن كاتب السيرة محبوس في الوقائع، وإن كان طليقا في نسجه، وما يختار من الوقائع، والكيفية التي يعاد بها نسج هذه الحبائل، المنتقاة بعناية ظاهرة أو مسكوت عنها، محبوس في أن ما حدث، قد حدث ببراهين ذاتية، يمكن التحقق منها، لكن لا يمكن توكيدها قطعيا، فهي ليست مسلمات أولى، كأن السيرة الذاتية، توكد أنها الواقع في عيني المعري، وأن الرواية / الأدبية، الواقع في مخيلة المعري.

هامش: في عيني المعري ما يتخيل أنه يرى، في مخيلة المعري ما يتخيل قسرا، وهكذا التوضيح مخل بالمعنى إلى حد ما.
سيبدو للمتأمل في هذا التشبيه، شبهة صلب المسيح وحتى قتله، ولن يعفينا من هكذا اشتباه ما تقدم، فما هي استدلالات، ما يبدو من وثوقية، في التباين بين كتابة السيرة الذاتية والأدبية، ما بين عيني المعري ومخيلة المعري، وإن قر نهجنا بهذا الفصل، ألا تكون في الكتابة السيروية شبهة الوثيقة، ما يمكن القانوني أو السيكلوجي، من استكمال أوجه التحقيق؟.

لن أكون محامي الشيطان المتوكد، لكن سنتحقق مما طلع كتوكد، فالحق لجلاج أو حلاج، إن سقطت النقطة سهوا أثناء الطباعة، أو طبعت الآن قولة جوستاف فلوبير: "مدام بوفاري هي أنا".

تنسج العنكبوت خيوطها، التي تبدو لغيرها واهنة، ولفرائسها القوى، كذا تنسج الذات سيرتها، فتوقعنا في حبائلها، حيث لكل ذات نوافذ، كعيون العنكبوت تحصى لكن لا حد لها. والسيرة خارطة هذه المتاهة، وإذا كنا نتغيا الولوج، بين ظفري الذات وسيرتها، فإن ذلك يعنى التوهان في المتاهة.

كنت منذ وقت مشغول، بهكذا موضوع ، لكن شغلت عن السيرة الذاتية، بمشاغل الذات، لكن الانغماس في الكتابة، يجعل المرء مشغولا بموضوعة السيرة الذاتية، لأن الكتابة حالة سيروية، والكتابة منزع ذاتي، كما فعل العنكبوت للحياة.

(2)
أقترح كنمذجة: كتاب "غوما" للأستاذ علي مصطفي المصراتي، ما يبدو لى سيرة غيرية، أي السيرة الذاتية التي تكتب عن الغير، سيرة ذاتية للزعيم الليبي فترة الحكم العثماني الثاني غومة المحمودي، وكاتبها علي مصطفي المصراتي من لا يقدم أي معونة للتجنيس أو شكل من أشكال الاصطلاح البحثي، لكن قرأتنا ما تجنس هذا الكتاب كسيرة غيرية.

ولن نستنطق نص "غوما"، لأن هذا النص يعرضنا هو لاستنطاقه، فمن مجمل ما ينطق به الأجواء الفيزيقية ومشوبها على النفس، ومن الأحوال تنبجس حالة نفسانية، وظلال هذه الحالة التي تشتد، وتتوضح من خلال بنية النص، أو مضافة من تخيلات الكاتب، من يرقب ويجس شخصيته غوما، وما يجول في خاطرها من خطرات، وتغضنات تشكل الوجه، وتحفر في النفس معالم، لا يرصدها حتى معايش للشخصية التاريخية، ما يوهمنا النص بأنه بحث مدقق وتسجيل أدق للشخصية والوقائع. وأن الوقائع المسرودة المظللة توهم القارئ بحقيقة متخيلة، عن الشخصية "غوما المحمودي" التي ما نعرف عنها القليل من الوقائع.

لكن النص رصد للنفس ولحالاتها، ومخيلة عابثة تستهدف التضليل والخديعة، فـ "غوما" المصراتي في المحصلة: "غوما"متخيل لـ"غوما". وهذه الوضعية تجعل النص حافلا بالمفاجآت، وكأني بالمصراتي ذاته، يتفاجأ بما أنتج، ما هو حافل بضمير المتكلم في صدر ضمير الغائب.

وكأن سيرة غوما الذاتية للأستاذ علي مصطفي المصراتي، هي السيرة التي افترضها لـ "غوما المحمودي"، الشخصية التي نعرف إلى حد ما، لكن في رواية المصراتي نعرفها بكيفية لا نعرف. في النص ما فيه من التباس الشعري، المتأبي على الإحصاء أو كما يقال.

إن السيرة الغرية لـ "غوما"، ما كتب المصراتي، ليست في منزلة بين المنزلتين، أي الرواية أو التأريخ، عند المتفحص، في هذه السيرة من الوقائع والتوثيق ما يظهر المصراتي الباحث، لكن هذه وثائق ووقائع مصراتية بحتة يعاد تشكيلها، وبهذا نتبين أن التخييل في خدمة مرجعيات الكاتب، على العكس من الكتابة السردية، ما تجعل من المرجعية في خدمة التخييل وانزياحاته، فالمدلول في هذه الكتابة انحراف عن الدال.
لسيرة غوما للمصراتي، كما مثيلها، منطق هو منطق: الـ "يمكن أن يكون"، وهذا ما يسمى في الحداثة "المنطق الاحتمالي"، ما من الـممكن أن يكون، ويحتمل أو يستقبل تجربة المتأبي على الحساب، متأب على الحساب الجذرى. وفقط بالدخول في الما بين من هذين المنطقين، منطق القابل للحساب، ومنطق ألا يمكن أن يكون، يمكن التعرف ربما على "الما بين" الذي يهمنا هنا.

هكذا في تقديري، يمكن تفكيك التماهي الظاهر بين الكاتب، والسيرة التي يكتب، في حالة كهذه من جهة، ومن جهة ثانية، يحتمل ذلك فك هذه الكتابة، من اشتباكها في الكتابة الأدبية المحضة، على الخصوص الكتابة السردية.

وهكذا يكون المقصود بالسيرة الذاتية/الغيرية: محكيا يلخص حياة ما، ما يمكن أن يكون وثيقة ما، لكن ليست وثيقة.