Atwasat

بشرٌ، وليسوا قطيعا

محمد عقيلة العمامي الإثنين 14 يونيو 2021, 11:50 صباحا
محمد عقيلة العمامي

" إدوين مولر 1892 - Edwin Mueller 1963 " محرر متجول لمجلة "Readers Digest" لأكثر من 25 عامًا، تخرج في جامعة برنستون عام 1914 بدرجة البكالوريوس وقضى سنة واحدة في كلية الحقوق بجامعة هارفارد. ترك كلية الحقوق في عام 1916 خلال السنوات التي قضاها كمحرر متجول قام بتغطية معظم أنحاء العالم وكان مراسل حرب في أوروبا خلال الحرب العالمية الثانية. كتب العديد من المقالات، منها مقال عن الرئيس الراحل جمال عبدالناصر.

المقال مركز، ولأنني في الواقع ناصري، أحسست وكأنه يتكلم بلساني، ولذلك سوف أنتقي منه فقرات يتفق عليها حتى المختلفون معه، وبالتأكيد سوف أضعها مثلما كتبها الكاتب، ولكن من الأهمية أن أبرز حال مصر، وقت صدور المقال في شهر أغسطس سنة 1956، وأيضا نواحيَ قد يرفضها من يرى مصر بعين لا ترى سوى قناعاتها، وفي كل الأحوال سأنقلها مثلما هي.

في نهاية المقال يقول الكاتب، أن عبد الناصر قال لزملائه أعضاء مجلس قيادة الثورة: "لقد ظللنا أربع سنوات أشبه بأنصاف الآلهة، لا حسيب علينا. ويجب أن نعد أنفسنا للتغير الذي سيحدث، ونوطن أنفسنا على ما سنلقى من معارضة واستجواب، وتصويت ضدنا" ويضيف الكاتب أنه لو كان يعني حقا ما كان يقول سيكون حدثا جديدا بين قواد الثورات.

ولقد رحل عنا هذا الزعيم، ولكنه ظل رمزا خالدا لنزاهة الحاكم، إذ لم يكن في حسابه سوى مرتب الشهر الذي رحل فيه بعد فترة حكم استمرت عقدين إلاّ سنتين!

سنة 1956 كان تعداد سكان مصر 22 مليون ونصف نسمة، وكانت المساحة الزراعية حوالي ستة ملايين فدان، فيما يتزايد عدد السكان بحوالي نصف مليون نسمة سنويا. كان الجزء الأكبر من الأراضي الزراعية يملكه الباشوات والأسرة المالكة، وتزرع بواسطة مستأجرين، لا يزيد دخل الفرد منهم عن 100 دولار في السنة، كانت قيمتها في تلك المرحلة 30 جنيه مصري، وكان حوالي مليون و750 ألف نسمة يملكون أراضيهم الخاصة التي لا تزيد عن فدان واحد- حوالي 4200 متر تقريبا- فيما تتلاصق مساكنهم في أقل مساحة ممكنة. وباختصار شديد، مثلما يقول الكاتب الأمريكي، كان أجر العامل اليومي حوالي عشرة قروش.

إلى أن وصل الرئيس جمال عبدالناصر إلى الحكم، ظلت مصر طوال ثلاثة قرون محكومة بواسطة الفرس، واليونان والرومان، والبيزنطيين والأتراك والفرنسيين والإنجليز، الذين كانوا مازالوا يحتلون البلاد تنفيذا لنصوص اتفاقية معقودة بين الطرفين.

ويقول الكاتب الأمريكي، ولست أنا!: "كان حلمه أن يحس ابن البلد بالكرامة الإنسانية، التي هي حق له، وذلك لا يتوفر له إلاّ بإتاحة الفرصة لأن يكون رجلا حرا، ولكنه لم يكن حرا. فكافة احتياجاته في أيدي إقطاع يملك الأرض ومن عليها.

وبسبب ذلك بدأ مسالما ساعيا لاتفاق سلمي مع بريطانيا، وظل كذلك حتى مغادرة آخر جندي بريطاني 18/ 6/ 1958، وسريعا ما تجه إلى نزع ملكيات الأراضي، التي تزيد عن 200 فدان من الإقطاعيين، وزعت على مستأجري الأراضي منهم ويسددون قيمتها على أقساط في 30 سنة، وتم بالفعل توزيع نصف مليون فدان! وانتقلت الثورة إلى برامج إصلاح مساحات زراعية جديدة- والرائع أن ذلك الإصلاح لم يتوقف حتى الآن - ورؤيته المستقبلية كانت وراء مشروع السد العالي، الذي كان الكاتب حينها يتحدث عنه كمشروع مبرزا مشاكله، وها نحن الآن نتحدث عنه وهو قائم، وساهم مشروعه في مجانية التعليم في تخفيض نسبة الأمية.

وانتشرت المساكن وعبر عنها الكاتب أن النهضة المعمارية ازدهرت، وتراجعت كثيرا نسبة المحجبات، وبدأت العربيات تتحرك في الطرقات، فيما قلت نسبة البهائم وما تجره من حناطير! وتغيرت معنويات المصريين وصفها الكاتب، أن فلاحا مصريا ثنى ذراعيه أولا على صدره، وطأطأ رأسه بخوف وخشوع وقال للكاتب: "هكذا كنتُ سابقا" ثم شد صدره ، ونظر في عيني الكاتب بثبات: "وهكذا أصبحت الآن!" وقال رفيقه: "كنا قطيعا، أما الأن أصبحنا بشرا".

كل ذلك، وربما أكثر، عرفناه عن هذا الزعيم الخالد، ولكن ثمة حقائق لم تصلنا، ربما لأن هناك من تعمد حجبها: منها نقطتان ذكرهما هذا الكاتب في مقالته، الأولى أن: "أنه الزعيم الوحيد في الشرق الأوسط، الذي يبدي استعداده لبحث إمكانية تحقيق سلام بينه وبين إسرائيل، شريطة تسوية مشكلة اللاجئين والعودة إلى الحدود التي اقترحتها الأمم المتحدة عام 1947"

أما النقطة الثانية: "أن خطط عبدالناصر فيما يتعلق بمستقبل مصر، تقوم على أساس مشروعات حرة. فهو يؤمن بالملكية الخاصة، ويؤكد بقوة على أن الملكية غريزة جوهرية في الإنسان، وأنها حق له، وهو يشير إلى هذه الحقيقية، وهي أن المستأجرين لما أصبحوا ملاكا للأرض التي يزرعونها، زاد الإنتاج في الفدان بنسب تراوحت ما بين 15إلى 20%، وبناء على ذلك ستكون المصانع الجديدة ملكيات خاصة!". ولكننا نحن، الجيل الذي عاصر تداعيات ثورة 23 يوليو وما حدث بعدها، لم نشهد هذا يتحقق، وبالتأكيد لابد أن ثمة أسبابا حالت دون ذلك.

الواقع أنني اهتممت بهذا الموضوع، ولخصته لكم لأؤكد شيئا أحسست به، عندما رأيت وسائل الإعلام، في بداية تولى الرئيس السيسي قيادة مصر، نشر صورة قديمة للراحل جمال عبد الناصر يحمل الرئيس عبدالفتاح السيسي، وهو طفل. وما أراه الآن هو تواصل مسيرة 23 يوليو المباركة، منذ أن توقف العديد من مشاريعها بعد سنة 1956 بقليل، وهو ما تناوله هذا المقال، الذي كتبه أمريكي سنة 1956 مبرزا ما كان عبدالناصر يخطط له، وبالتأكيد لم يكتبه وينشر في مصر سنة 1956 إلاّ بموافقة الدولة.

والنقطة المهمة الأخرى، هي أنه لم يكن هناك ذكر أو تلميح أو اقتراب من الدين، لا الإسلامي، ولا المسيحي، ولا اليهودي من السياسة، إنما دولة مدنية متاحة للديانات السماوية دون إقصاء لأي منها.

وما يحدث الآن في مصر، هو تحقيق تلك الأفكار الخيَرة التي تريد رخاء مصر، وتعزيز كرامة المواطن المصري واعتزازه بوطنه.

وهذا في تقديري ما تحتاجه ليبيا الآن. دولة مدنية همها استقرار الوطن واعتزاز المواطن به، ويتطلع أن يعيش فيه عزيزا كريما آمنا. لا يفرض عليه فكر ما، ولا يفرض فكره في الوقت ذاته على شركائه في الوطن والمواطنة. وهذا ما أراه وأتابعه في مصر الآن، فيما تتوالد مشاريع وفرص عمل، لتحقيق حياة بشرية كريمة، لا حياة قطيع.