Atwasat

وعود من سراب في الدولة الهشة

رافد علي الخميس 10 يونيو 2021, 03:47 صباحا
رافد علي

شاع عالمياً قبل عدة عقود من الآن مصطلح الدولة الفاشلة Failed State كدلالة لضعف بعض دول العالم بسبب عدم الاستقرار الاقتصادي، وضعف الحكومة المركزية في بسط سلطانها، وفي مدى قابلية الدول الفاشلة للتدخل الأجنبي المباشر عسكريا أو عداه.
ظهر مصطلح الدولة الفاشلة لأول مرة في خطاب مندوبة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة في ديسمبر عام 1992 بهدف تشجيع دول العالم لمساعدة دولة الصومال التي انهارت حكومتها، فانكب الباحثون في علم السياسة والاقتصاد والاجتماع لمعرفة ماهية الدولة الفاشلة.
بدايات الاهتمام بالدولة الفاشلة كان منصباً فقط على الركن الاقتصادي، لكن الواقع العلمي أثبت أن الدولة الفاشلة ليست هي التي تعاني عوزا في الموارد واحتياجا في الخطط والكوادر والأموال، بل هي الدولة التي تتميز بوجود أنظمة سياسية مهلهلة أو مختلة وظيفياً. ففي عام 1993 قدم جيرالد هيرمان مع ستيفين رانتر بحثين عن "الدولة الفاشلة" نشرا بمجلة Foreign Policy الأمريكية، وخرجت للنور عام 1995 دراسة وليام زارتمان بعنوان "الدولة المنهارة"، كما ساهم نعوم تشومسكي عام 2006 بإصدار كتاب باسم الدولة الفاشلة، كمساهمة منه في ظل شيوع المصطلح - بالغرب حينها تحديداً- الذي انطلقت مناقشات عديدة حوله متناولة إياه من جوانب مختلفة تتجاوز الركن الاقتصادي. فقد أوضح تشومسكي في مقدمة كتابه المذكور أن الدولة الفاشلة تتمحور في خاصيتين، الأولى عدم قدرة الدولة، أو عدم رغبتها في حماية مواطنيها من العنف والدمار. والخاصيّة الثانية عنده هي نزعة تلك الدولة لاعتبار نفسها فوق القانون.

في عالمنا العربي انكب الأكاديميون والبُحاث على التعاطي مع مصطلح الدولة الفاشلة بشكل ضيق نسبياً في البداية مع محاولتهم إيجاد ترجمة أكثر تهذباً لذات المصطلح تتناول فكرته، وفي ذات اللحظة تقدمه كمؤشر اقتصادي حديث الظهور له ميادين بحثه وعناصره وأسلوبه في التحليل.
الدكتورة غادة موسي، في مصر، كانت كأكاديمية من أوائل العرب الذين اشتغلوا على ترجمة مؤشر "الدولة الفاشلة" بتكليف وزاري عام 2009. وتوضح غادة في مقالة لها منشورة عام 2015 على موقع المصراوي، توضح مدى الإرباك في عملية الترجمة والتعريب لمصطلح أو مؤشر Failed State Index، إلا أن الإشكالية حُلت عندما تحدث الرئيس حينها في ملتقي شبابي عن الدولة الفاشلة مستخدماً المصطلح بلا أي تحفظات.

مصطلح الدولة الفاشلة تم تبديله بمصطلح الدولة الهشة Fragile State Index اعتباراً من عام 2014، مع صدور دراسة للبروفسور مايكل ولكوك والتي نشرت بالتعاون بين هارفرد كيندي سكول والأمم المتحدة وتبعتها المنظمة الدولية للتعاون والتنمية بإصدار ورقة بحثية للمستشارة يولاندا برفوز تستخدم المصطلح "الدولة الهشة" تمهيداً لنشر التقرير السنوي للبنك الدولي الذي تبنى ذات التسمية.

الدولة الهشة أمسى اليوم تعبيراً بارزاً في أحاديث الناس على اختلاف مستوياتها في عالمنا العربي، فدلالته اللغوية تسمح له بأن يوظف خارج قالبه العلمي. فهو كمؤشر اقتصادي وسياسي يعتمد علي 12 عنصراً قطاعياً مستخدماً أكثر من 100 مؤشر فرعي، مصنفة جميعها في 5 مجموعات. وكل مؤشر يقيّم من صفر إلى عشرة درجات، وكلما تدنت الدرجة كان المؤشر في حالة جيدة.

المؤشرات الـ 12 حسب ما يقيس صندوق السلام الدولي هي : 1- جهاز الأمن، بحيث يتم تحليل التهديدات الأمنية التي تواجهها الدولة. 2- انقسام النخبة، إذ يرصد هذا المؤشر تفتت مؤسسات الدولة على أسس عرقية أو طبقية أو إثنية أو دينية أو قبلية أو جهوية أو مناطيقية. 3- انقسام المجموعات ومظلومياتها، ويركز المؤشر هنا على الانقسامات والانشقاقات من خلال الخصائص الاجتماعية والسياسية في أي دولة، ودورها في تقديم الخدمات. 4 الحالة الاقتصادية، يهتم المؤشر علي تحليل أنماط التراجع الاقتصادي والسيولة ودخل المواطن والتضخم والانخفاض المفاجئ للأسعار والديون ومستويات الفقر والبطالة وأحوال المشاريع.5 – عدم المساواة في توزيع عوائد التنمية. 6- هجرة السكان والأدمغة. 8- حالة الخدمات العامة. 9- حقوق الإنسان وسيادة القانون. 10- الضغوط الديمقراطية. 11- اللاجئون والنازحون. 12- التدخل الأجنبي.

يهدف مؤشر الدولة الهشة العام إلى فهم المزيد عن قدرات الدولة والضغوط التي تساهم في مستويات الهشاشة لديها، ويرمي للكشف عن مدى قدرتها علي التعافي. وتؤكد منهجية صندوق السلام الدولي حول البيانات المعتمدة في مؤشرها أنه "يجري التحقق منها كماً وكيفاً ويقيّمها الخبراء نتيجة مراجعات نقدية لعدد كبير من الوثائق" وتطبيق "معايير دقيقة تستند إلى مناهج العلوم الاجتماعية الشاملة."

تظهر عند بعض الكُتاب العرب قضية الدولة الهشة في كتاباتهم بروح النقد اللاذع في ظل الأحوال المتردية في بلداننا العربية بشكل عام، مع مراعاة حالة الخصوصية لمجتمعاتنا العربية ودولنا.

فالبعض يكتب أننا كدول اقتصاد ريعي جعل من عجلة اقتصادياتنا تعمل بطريقة متواضعة، وتعاني من التخطيط السيء. ففي نظر هذا الصف أن دول الاستقلال لم تحقق الاستقلال الحقيقي، لأنها ظلت غالباً تبحث عن داعم دولي قوي لها وسط نزاع إقليمي محموم معزز بخصومات آيديولوجية، بما جعلها دولاً تتخبط في فك التبعية، ولجأت بالتالي حكوماتنا لحماية سلطانها للعصبيات والطائفيات والعائليات، وغيرها من الأساليب التي تعد عِللا شاخصة للمدنية عماد الدولة المعاصرة، فغابت بالتالي الديمقراطية، وبتنا نعيش في "ردة اجتماعية" تكفر بقيم العصر من حرية ومساواة وتضامن وإنجازات حضارية تجعل منا دول فاعلة، فغابت في أوطاننا المعاني الحقيقية للدولة العميقة، فالنظام الذي يسقط في وطننا العربي يتبين أنه لم يبن إرثا وطنياً متفقا عليه داخلياً بحيث تكون عملية صونه والمحافظة عليه من بواعث العمل للغد الجديد، مما جعلنا نكون "هشاشة دول" ولسنا "دولاً هشة" تكون المؤشرات لدينا قابلة للتطوير والتحسن ضمن خطة وطنية حقيقية وطموحة.

الدكتور باسم الطوسي في مقالته بصحيفة الغد العام 2017 بخصوص الدولة العربية الهشة يرى أن ظاهرة "الردة الاجتماعية" التي تعم دولنا رغم النسبية فيها من قطر لآخر، تلتقي جميعاً، برأيه، في نقطة "تجريف فكرة الدولة" والزج بها نحو المزيد من الهشاشة أو الضعف، "فالخرائط السياسية والثقافية الجديدة، أعادت العشائر والعائلات إلى الواجهة السياسية في معظم بلدان التحولات العربية"، ويعزو الطوسي فكرته هذه لانعدام وجود مشروع إصلاحي من الداخل يؤمن بالدولة الديمقراطية.

من المُسلم به أن مصداقية الدولة وليدة نجاحها المقترن بممارساتها في تحقيق أهدافها الوطنية الملحة أولاً والطموحة ثانياً، بما يحّول ولاءات الأفراد إلى ولاء للوطن وللدولة فيه، كسلطة شرعية أولاً ومقبولة ثانياً، فسقوط هكذا قيم، أو غيابها أساساً، لن يغيّر من أمر العرب شيئاً حتى ولو قامت الدنيا بكل مواسم الربيع فيها. فنحن كدول وكشعوب لازلنا في حالة تعاقدية مرتبكة من خلال بروز الانقسامات الداخلية بعنفها والتصعيد فيها وحتي بالتسيس لها، والتي باتت ورقة سياسية مهمة عند البعض منا بقصد التشويش والبقاء بالسلطة بعيداً عن محاولة رسم ملامح نهار أفضل برحاب وطن للجميع لا تحركه وعود من سراب.