Atwasat

حرب التماثيل البريطانية

جمعة بوكليب الخميس 10 يونيو 2021, 03:43 صباحا
جمعة بوكليب

أخيراً، وبعد مشاورات طويلة وحسابات دقيقة، بغرض تفادي خدش مشاعر البعض من الجمهور ما أمكن، استقر رأي المسؤولين، في أحد متاحف مدينة بريستول البريطانية، على الوضعية الأخيرة التي سيتم فيها عرض تمثال البرونز لتاجر العبيد إدوارد كولستون في المتحف، ليتمكن الجمهور من مشاهدته في مكانه الجديد، من دون إثارة مشاكل أو توجيه إدانات لإدارة المتحف. التمثال، كما عُرض في نشرات الأخبار المتلفزة مؤخراً، وضع في صالة عرض في وضع أفقي راقداًعلى قفاه وليس منتصباً أفقياعلى منصة، كما كان قبل أن يلقى به إلى الأرض، وقد تلطخ الجزء العلوي منه بدهان أحمر، فبدا وكأنه قطعة فنية معروضة وليس تمثالاً. تمثال إدوارد كولستون كان أول من سقط، من بين 70 تمثالاً برونزياً، في حرب التماثيل البريطانية، التي جرت في العام الماضي، وشنّتها حركة "حياةُ السود تهمُّ Black Lives Matter- " للتخلص من كل الرموز التاريخية، في الساحات والميادين والجامعات، ذات الصلة بتجارة العبيد عبر الأطلسي وبالتوسع الاستعماري البريطاني. وكولستول كان من أكبر تجار نقل العبيد، وكوّن من تلك التجارة ثروة طائلة. لكنه، أيضاً، كان محبّاً لأعمال الخير ومعروفاً بالإحسان، وأنفق جزءا كبيراً من ثروته على مؤسسات تعليمية ودينية وصحية وعلى الفقراء. هذه الميزة الخيرية جعلته محبوبا،ً واختاره مواطنو المدينة ليكون نائبا عنهم وممثلا لهم في البرلمان. وجعلتْ أنصاره الحاليين يعبئون الصفوف متوحدين في موقفهم المعارض لنزع تمثاله أو تشويه سمعته. إلا أن أنصار حركة "حياة السود تهم" من الشباب، تحركوا بسرعة، يوم 7 يونيه 2020 ، وهجموا على التمثال في وسط المدينة، وأسقطوه من منصته بحبال، ثم جروه على الأرض وسط تصفيق وتهليل، وألقوه في مياه البحر. وعرضت القنوات التلفزية البريطانية تلك المشاهد مباشرة على الهواءّ. إلا أن المجلس البلدي للمدينة سارع بانتشال التمثال، في اليوم التالي، من الماء، وعهد به إلى خبراء قاموا بإصلاح ما لحقه من عطب. وها هو الآن، بعد مرور عام بتمامه وكماله، يعود، بعد صيانته، للعرض ليس على منصة مشيدة في ميدان من ميادين مدينته بريستول، بل في صالة صغيرة في متحف صغير، مخصصة لعرض تاريخ تجارة نقل العبيد في أحد المتاحف.

حرب التماثيل في بريطانيا، لمن لا يعرف، جزء من حرب ثقافية تشهدها البلاد منذ فترة، ومازالت، رغم استفحال الوباء الفيروسي، متواصلة في وسائل الإعلام، ولا أظن أنها ستنتهي قريباً، وبتداعيات وانعكاسات ملحوظة، أدت إلى انقسام في آراء المواطنين: فريق مناصر يرى ضرورة التخلص من كل التماثيل المعروضة في الميادين والساحات وفي الجامعات لأشخاص ارتبطوا بالماضي الاستعماري البريطاني وبتجارة نقل العبيد عبر المحيط الأطلسي، وإحلال تماثيل مكانها لشخصيات بتاريخ مشرف. وفريق آخر معارض، ومن ضمنهم رئيس الحكومة بوريس جونسون، يرون أن التماثيل جزء من التاريخ البريطاني وبالتالي يفترض أن تبقى في أمكنتها. الحرب طالت أيضا المطالبة بتغيير المناهج الدراسية، وإعادة كتابتها بشكل يقدم الحقائق، ويوضح معاناة الشعوب مما طالها من مصائب الاستعمار البريطاني.

التماثيل منذ العصر الروماني كانت تنصب لفترة ثم تقلع من مكانها وتستبدل بأخرى. والغرض منها، استناداً لما يراه البعض من الكتاب، كان ملء الفضاء بهدف الاستحواذ على الذاكرة. وذاكرة مدينة بريستول الحالية تختلف عن ذاكرتها في القرون السابقة. وربما لذلك الغرض، تريد المدينة أن تؤكد على حاضرها وما يتميز به من سمات حضارية وتعددية، بأن تتخلص من مشاعر عقدة الذنب التي ورثتها، وتطهير نفسها من شوائب وبراثن تاريخها القديم، بما يشبه التعميد في الدين المسيحي، أي اكتساب حياة جديدة، وشخصية حضارية مختلفة. ولهذا السبب قام المجلس البلدي بالمدينة، بعد عملية إسقاط التمثال، بتشكيل لجنة أطلق عليها اسم "نحن تاريخ مدينة بريستول"، ضمت مؤرخين وسياسيين ونشطاء حقوقيين وأدباء ومثقفين وغيرهم، لإعادة تقييم ماضي المدينة. وقامت اللجنة بوضع استفتاء وزعته على المواطنين برغبة معرفة آرائهم فيما يتوجب عمله بالتمثال. هل يعاد نصبه في مكانه السابق، أم يتم التخلص منه كلية، أو يوضع في متحف؟

المدينة اليوم، تختلف يقيناً عن تلك التي وجدت عام 1895، السنة التي تُعلّم لنصب التمثال. في تلك الفترة الزمنية كانت بريستول مركزاً كبيراً من مراكز تجارة نقل العبيد عبر المحيط الأطلسي. وحيث كانت تتجمع السفن في مينائها لتنقل السلعة الآدمية الأفريقية لتباع في أسواق العالم الجديد. المصادر التاريخية تؤكد أن 84 ألف أفريقي تم نقلهم على ظهر تلك السفن إلى أمريكا من ميناء مدينة بريستول، وأن 19 ألفا منهم قضوا نحبهم في الطريق بسبب سوء الأوضاع المعيشية، خلال تلك الرحلات البحرية الطويلة.