Atwasat

التعمية على المرتزقة

نورالدين خليفة النمر الخميس 10 يونيو 2021, 02:12 صباحا
نورالدين خليفة النمر

يقترب مؤتمر برلين الثاني في 23 يونيو 2021 حول ليبيا، والبند الرئيسي في بنوده إخراج المرتزقة منها. الخلط يأتي بإضافة جملة والقوات الدولية. بينما الرئيس الفرنسي الذي يرضيه هذا الخلط يدرك تاريخ فرنسا المخجل بتواطئها مع إضرار المرتزقة، بأفريقيا. خطل ربط إخراج المرتزقة بخروج القوات الدولية والمعنية به القوة العسكرية التركية، ولذا صرح بوجوب مغادرة المرتزقة ليبيا، ولم يمزجهم بالقوات الدولية. واكتفى بجملة وقف التدخلات الخارجية غير المحددة بتركيا في ليبيا.

كُتاب الصحافة في الدول العربية المؤيدة سياسياً والداعمة مالياً وعسكرياً لمُسمى الجيش الليبي يلحقون لفظ المرتزقة فقط بتركيان وهم بذلك يعمّون الأنظار على قائده الذي جلب أساساً مرتزقة فاغنر الروسية لدعمه في صراعه مع خصومه بعدوانه على العاصمة طرابلس.

بانتصار ثورة عام 1917، استجاب لينين الزعيم المؤسس لإمبريالية الاتحاد السوفياتي لمطالب البلدان التي طالتها إمبريالية القياصرة الإقطاعية، لكنه سرعان ماتنكر لأفكاره الثورية في كتابه "الإمبريالية أعلى مراحل الاستعمار" ونشر الجيش الأحمر الجديد لفرض السلطة السوفياتية في جميع أنحاء الإمبراطورية الروسية السابقة. وقد نجح في أوكرانيا وجنوب القوقاز وآسيا الوسطى. لكنه فشل في فلندا ودول البلطيق، وتعرض عام 1920 لهزيمة حاسمة خارج وارسو. وهذا ما سمح بظهور سلسلة دول مستقلة بالجانب الغربي للإمبراطورية الروسية السابقة. ومثلما فعل لينين قبل قرن، عزم الرئيس بوتين على تغيير الوضع. فمنذ توليه الحكم - في أعقاب محاولات روسيا المضطربة للإصلاح الديمقراطي والليبرالي منذ عام 1990- أصبح من الواضح بشكل متزايد أن الرئيس الروسي يطمح إلى جعل روسيا، اقتصادياً وجغرافياً وسياسيا إمبريالية مرة أخرى. وبالعودة إلى عام 1976، قبيل تمديد الاتحاد السوفياتي لإمبرياليته التي قضت عليه في نهاية غزوه لأفغانستان عام 1989 قال كبير مستشاري وزارة الخارجية الأميركية لوزيره هنري كيسنجر - بشكل يدعو للتدبر - إن روسيا فشلت في إقامة علاقات "عضوية" مع الدول التابعة لها. ويعني في شرق أوروبا والبلطيق. ومنذ انهيار الاتحاد السوفياتي في 1991 مازالت البلدان الغربية تخوض صراعا خطيرا حول السلطة مع روسيا الانتقامية التي تطالب باستعادة ما فقدته. وإن كان توسيع الناتو والاتحاد الأوروبي ليشملا أوروبا الوسطى ودول البلطيق أساسيا للأمن الأوروبي. إلا أنه شيئا فشيئا وكلما أتيحت الفرصة، أضحى الكرملين مستعدا لاستخدام كل الوسائل المتاحة له لاستعادة ما يعتبره ملكا له. قد لا تكون لدى بوتين خطة ثابتة أو شاملة لاستعادة الإمبراطورية، لكن لا شك في أن لديه رغبة قوية لتحقيق تقدم الإمبريالية كلما أمكن تحمل الخطر، كما حدث في جورجيا 2008، وأوكرانيا 2014، وتواطئها في خرق حقوق المعارضة والإنسان بتواطئها مع النظام الدكتاتوري في روسيا البيضاء.

الأسوأ أنه قفز بإمبرياليته الروسية إلى الشرق الأوسط بتدخله لصالح نظام دكتاتوري ثار عليه الشعب السوري في سلسلة ثورات ما سمي بالربيع العربي. ولكن الوجود العسكري الروسي في سوريا، رغم إلحاق وصمة المرتزقة به إلا أنه تدخل باسم الدولة، عكس الأمر في ليبيا حيث يتجلبب تدخل الإمبريالية الروسية الجديدة بأموال دول عربية متواطئة بعار مرتزقة فاغنر المأفونة.

فالشركة المقاولة للمرتزقة باسم "فاغنر" تؤدي الدور الموارب والمكمّل البديل الذي يسمح لموسكو بالمشاركة في عمليات عسكرية من دون الحاجة للزجّ بقواتها العسكرية النظامية في ليبيا وليس كما هو الحال في سوريا، وبالتالي من دون أن تكون مضطرة إلى تبرير تورطها. هذه الطريقة المتبعة لدى الدولة الروسية، المسماة "الإنكار المقبولplausible deniability تهدف عبر التصريحات الرسمية وكلمات المندوب الروسي في مجلس الأمن إلى التعمية الفاضحة على المرتزقة بتدخلها في ليبيا دون تحمل التكلفة الأخلاقية والمالية التي تتحملها بلدان عربية نفطية للعب أدوار مؤزمة للمشكلة الانقسامية الليبية المفتعلة. فالدولة الروسية التي تدخلّت في سوريا عام 2011 جاءت بطلب من النظام السوري الحاكم، والمعترف بحكومته دولياً رغم دكتاتوريته المنافية لحقوق الإنسان وحتى اليوم يحوز مقعد الدولة العضوة في منظمة الأمم المتحدة. بينما في ليبيا فإن روسيا عام 2011 تحاشت ذلك لتثبيت نفوذها شبه الكامل في سوريا، وعدم الدخول كمنافس واضح، كما هو حال دول أوربية لها شرعية التاريخ والمصالح الاقتصادية والجيوسياسية كإيطاليا وفرنسا
.
لدواعي مصالحية لم تنظم روسيا لجوقة البلدان الإقليمية الداعمة لمسمى الجيش الوهمي في شرق ليبيا بالتنديد بالتدخل التركي عبر اتفاقية مع حكومة الوفاق الليبية الشرعية لرّد عدوانه على العاصمة طرابلس. فلروسيا أولوية في المنطقة العربية الشرق أوسطية، هي منع التأزم في العلاقات الروسية التركية. وعلى الرغم من الخلافات الجادة بين الدولتين حول القضايا المهمة بالنسبة لروسيا، كالمواقف من سوريا وليبيا وشرق البحر المتوسط والوضع حول ناغورنو قره باغ والقرم، نجحت روسيا في احتواء نفوذ تركيا في الدول العربية التي تهم روسيا استراتيجياً. بتبنيها لسياسة متوازنة تمنعها من تقديم تنازلات مفرطة من ناحية، ومن ناحية أخرى توقي تفاقم نزاعها مع تركيا. وفي المقابل حافظت أنقرة على أن تحوز مرتبة الشريك الأساسي لروسيا الاتحادية في المنطقة الاستراتيجية المذكورة.

لا أتصور ليبيا عاقلاً، بل كاتباً واعياً بالسياسة، أن يتقمص اللغة الخشبية للنظام الدكتاتوري الليبي الساقط بثورة شعبية عام 2011. فيندد بالتدخل الأمريكي ـ الأوروبي في ليبيا. وأعني الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا، بل يدين بالعرفان لتدخل هذه البلدان بالقوة العسكرية لحسم نهاية نظام دكتاتوري فاشي جثم على صدور الليبيين طوال أربعة عقود من الزمن. عكس الدول التي تلكأت في المساهمة مع الدعم الغربي لتحرير الليبيين حفاظاً على مصالحها الاقتصادية مع النظام الدكتاتوري والمقصود بذلك إيطاليا وتركيا والأنكى روسيا التي أجبرها تدخلها في المستنقع السوري على عدم التصويت ضد قراري مجلس الأمن بعون الليبيين في ثورتهم الشعبية عام 2011. بل إهانة الشعب الليبي بالتدخل بالمرتزقة المجرمة شركة فاغنر في تأجيج انقسامه لصالح عودة الدكتاتورية من جديد.

ينعقد مؤتمر برلين 2، في موعده المرتقب هذا الشهر، وقد تغيرت المعطيات في ليبيا بالوصول وبدعم دولي في تأسيس اللجنة العسكرية الليبية المشتركة (5+5) إلى وقف كلي للتحارب الليبي ـ الليبي، وبتكوين رئاسة حسمت لرئيسها مسألة حيازته لمنصب القائد الأعلى للجيش الليبي، وحكومة وحدة وطنية مهما كانت مناقصها، التزمت بتنفيذ الاستحقاق الشعبي بانتخابات رئاسية وحكومية في 24 ديسمبر 2021. كل هذه المعطيات الليبية الإيجابية تدفع الدول الغربية ألمانيا الدولة المضيفة وإيطاليا وفرنسا وبريطانيا الساعية لعقد مؤتمر برلين الثاني لحل القضية الليبية، إلى أن تتبنى موقفاً حازماً من روسيا لتخرج مرتزقتها المسماة فاغنر فوراُ ودون ربطها بشروط أخرى من ليبيا .