Atwasat

الموهبة والتجاهل

سالم الكبتي الأربعاء 09 يونيو 2021, 12:32 مساء
سالم الكبتي

بن غزي.. الفنان في كل الوجوه.. في التعامل.. في الصداقة.. في الكتابة.. في الثقافة.. في المسرح.. مشروع فيلسوف لم يكتمل.. وناقد قهره الموت مبكرا.. وظل الميدان يفتقر إلى فارس مثله يجيد المواجهة وخوض المعارك والخروج بانتصار متوج.

موهبة كبيرة انطفأت فجأة بعدما توهجت في ليلنا المعتم بلا قمر في أغلب الظروف وظلت معجونة بنار المعاناة وطين العطاء الحقيقي.. صوت فاعل لم تعد تذكره أو هي لا تريد أو هي لا تعرفه حق المعرفة.. تلك الأوساط الممتلئة شللية ومحاباة في ما يسمى عالم الثقافة عندنا.. تجاهلته أو طمسته أو هي أيضا لا تعرفه كما أشرت ولم تسمع به.. إنها في الغالب تميل إلى الرداءة والقبح منذ زمن.. فكيف تجد طريقا إلى جمال المعاناة والعطاء الحقيقي.. كيف تعرف الجودة من غيرها.. كيف يتم لها ذلك ومن في الثقافة لا يعرف شيئا عن الثقافة في تاريخ الوطن؟

لكن أمثال بن غزي الذي لا يعرفونه يطلون بثبات ووقار عبر حياتنا الفنية كما عرفناه.. كما تعودنا عليه.. كما كان صديقا وإنسانا.. تحتفي تلك الأوساط بالأضعف شأنا وتأثيرا وتتجاهل قامة من العطاء ذات يوم في بنغازي وليبيا كلها اسمها سالم مفتاح بن غزي.. لم يكرمه أحد.. لم يطبع نتاجه أحد.. لم يلتفت إليه من يدعي النقد والبحث والثقافة.

كان سالم ناقدا استثنائيا.. دراساته ومقالاته ليست عادية في تلك السنوات التي أجاد فيها جيل أعوام الستينيات ومطالع السبعينيات الماضية العطاء والتضحية دون مقابل أو طمع أو انتظار لمهمة.. من يعرف سالم مفتاح.. من يتذكره.. عقب رحيله منذ ما يقارب عشرين سنة وقبل ذلك لم تشر إليه وإلى جهوده أي دراسة أو بحث أو مقال وهو الذي كان فاعلا وموجودا بقلمه الواعي ومشاركاته تمثيلا وأداء وعطاء على خشبة المسرح.

من يتذكره ويستدعي معاناته ويبحث في تاريخنا الثقافي بعد كل هذه الأعوام في وطن يظل على الدوام ينسى أبناءه ويرفع من قدر من لا يستحق في كل مجال للأسف الشديد.

لم ينقطع سالم بن غزي عن العطاء.. أسهم في المهرجانات المسرحية في أغلب المدن، حيث أقيمت على مستوى ليبيا، وكان لافتا للنظر واستحق انبهار العديدين من المتلقين الذين يفهمون معنى الفن وقيمه وأصالته وإعجابهم.. ورأوا أنه يعد بمستقبل فني ممتاز في بلد يحتاج إلى الكثير من المواهب الصادقة والغنية بالمعرفة.

وفي الجامعة حيث احتواه قسم الفلسفة كان طالبا واعيا ومجتهدا ولو استمر به الحال لكان معيدا في مدرجاتها.. لكن العسف الذي طاله مع زملائه في قضية يناير 1976 الطلابية وتعرضه للسجن والمحكمة ثم البراءة.. حال دون ذلك ووجد نفسه خارج الجامعة يمر أمامها من بعيد ولا يستطيع الدخول إلى رحابها ومدرجاتها.. انكسر حلمه وتوقف بالقهر والإقصاء.

كنا معا تلك الأيام نلتقي المتابعين والمهتمين المستمعين لبرنامجنا الإذاعي الأسبوعي (الملتقى) مساء كل ثلاثاء أسبوعيا صحبة السنوسي حبيب ومحمد المسلاتي.. نقدم الدراسة النقدية والخبر الثقافي والنصوص الشعرية الجميلة والحكايات والقصص وآخر الإصدارات في ليبيا وخارجها طوال نصف ساعة مخصصة للبرنامج الذي احتضن كتابات العديدين في خطواتهم الأولى، ولم يعودوا يذكرون فضل هذا البرنامج الذي أوقف بتعليمات مشددة أثناء إذاعته على الهواء.. فقد كان مع زميلنا السنوسي مطلوبين ضمن الاتهام في القضية المذكورة.. سالم كان يداعبني بقوله الطريف بعدما نخرج من الإذاعة أو المقهى.. نتلاقوا في الراديو!

ثم في صفحات مجلة جيل ورسالة كانت مقالة سالم بن غزي أو سالم مفتاح كما كان يوقع مقالاته ونتاجه في الصدارة وفي الرؤية وفي العمق.. مقالات نقدية أين منها ما يعرف به الكثير من السقط في هذا الزمن.

نشاطات وحراك واعٍ ضد الموت وضد الجمود وضد التخلف ومع التنوير والاجتهاد والحب للجميع.. كانت تجربة جيل مضى وظل في الخاطر يتطلب الدراسة والبحث وتقليب الموضوعات.. أيام مضت.. تختلف واقعا ورؤية عما يلاحظ في العلاقات الثقافية التي سادت وطغت لاحقا في أجواء من التحاسد والتباغض والوشايات.. تلك أيام سالم مفتاح بن غزي.. ستبقى علامة لجيل.. ولشباب.. ولمواهب.. ولقدرات.. ولحياة ضد الجمود..

سالم مفتاح بن غزي.. تتجاهله ألعاب الصغار وتصرفاتهم، لأنهم لا يعرفون شيئا اسمه الجودة والأصالة.. لا يعرفون أن الرداءة والسخف والقبح تطرده التواريخ النظيفة للبشر!