Atwasat

كسر الأنف

عمر أبو القاسم الككلي الأحد 16 مايو 2021, 04:17 صباحا
عمر أبو القاسم الككلي

إلى جانب وظيفة الحواس الخمس التي تؤسس علاقة الحيوان والإنسان بالبيئة المحيطة، والوظيفة المعرفية المنبنية على أساسها علاقة الإنسان بالعالم والمجتمع والكون، ثمة جوانب مجازية، أو رمزية، في الثقافات الإنسانية لكل حاسة من هذه الحواس.

فالعين ترمز إلى الرعاية والانتباه والحراسة، في مثل قولنا "عينك على فلان أو كذا". وتعني التجسس في مثل القول "بث العيون بين أوساط العدو". والأذن أيضا يمكن أن تعني الجوسسة في مثل قولنا "هو أذن لفلان" أي ينقل إليه ما يسمعه. وتتخذ حاسة الذوق بعدا رمزيا واضحا في علاقتها بالجمال في مثل قولنا "هو إنسان ذواقة" وفي تدريسنا "التذوق الفني". ونقول "فلان، أو فلانة، صاحب أو صاحبة، ذوق" ونقصد بذلك التحلي بالرصانة والكياسة وحسن الأدب. ولدى المتصوفة يستعمل لفظ "ذوق" كناية عن الإحساس الوجداني بالحضور الإلهي في الذات الواجدة. ويعبر بعضو الذوق، اللسان، عن قوة العقل وفعالية الكلمة في القول الشهير "اللسان هبرة، لكنه يكسر العظم".

واليد، أبرز أعضاء حاسة اللمس، تتخذ بعدا رمزيا في مثل تعبيرنا "مد يد الصداقة"، وتعني الكرم أو البخل حين نصف اليد بأنها مبسوطة أو مغلولة، كما تعني القوة والبطش في تعبير الحكومات القمعية والطغاة "سنضرب بيد من حديد على يد كل من تسول له نفسه إثارة الشغب وبث الفتنة"، ويقال أن جنكيز خان كان يردد القول "اليد أول عضو يمده إنسان إلى آخر!".

أما الأنف فله دلالات رمزية متميزة. إذ ترتبط حاسة الشم رمزيا بالتنبؤ بالأحداث وتوقع المستقبل القريب. كما أن للأنف صلة رمزية قوية بالكرامة والترفع عن الاتضاع، ومنه جاءت "الأنفة". وفي التعابير الليبية "فلان، أو فلانة، رافع خشمه (= أنفه) أو خشمها" وهنا يتعلق الأمر بالتكبر والتعالي. كما يقال عن الشخص الفضولي المزعج "داك خشمه في كل شي" أي يحشر أنفه في كل شيْ. وفي اللهجة الليبية أيضا يرمز الخشم إلى القُبلة، فيقال "اعطيني اخشيم" بالتصغير من باب التحبب، وعادة يقولها الآباء والأقارب للأطفال. ويقال فلان مرغ أنف فلان في الرغام أو الوحل أو التراب إذا نكل به، وفي اللهجة الليبية "فطسله خشمه"، أي كسر أنفه، بمعنى ألحق به الإهانة وأجبره على الركون إلى الاستسلام.

تداعت إلى خاطري هذه الأفكار أثناء متابعتي ما يجري الآن في فلسطين السليبة. (وحين أقول فلسطين أعني: فلسطين التاريخية). فمنذ حوالي قرن وربع من التسرب والوجود الصهيوني في فلسطين، كانت موجات المعارك بين الغزاة المدعومين، من قوى إمبريالية دولية إلى جانب تواطؤ عربي، والمقاومة الفلسطينية، الشعبية العزلاء أو المسلحة، معارك يمكن وصفها بأنها "معارك كسر الأنف أو تمريغه في الرغام". فمن جانب هناك الغازي المستكبر الذي يرفع خشمه في استعلاء واثقا من تفوقه العسكري الغاشم، ومن الجانب الآخر هناك المقاوم، صاحب الأرض والبلاد، الذي يدافع عن وطنه وكرامته بإرادة متينة وأنفة تأبى الاتضاع. الأنفة المتجذرة في الروح الفلسطسنية، التي يشربها الأطفال الفلسطينيون في حليب أمهاتهم، الرافضة لأي نوع من الخضوع والتسليم. فالصبي الفلسطيني الذي يقذف الدبابات الإسرائلية بالحجارة يعلم أن الدبابة لن تتضرر من حجارته، لكنه يبلغ رسالة إلى الغازي المتوحش مفادها: لن تركعونا. لن تفطسوا أنوفنا.