Atwasat

ليبيون من ذهب

سالم العوكلي الثلاثاء 11 مايو 2021, 05:46 صباحا
سالم العوكلي

في كتابه الضخم "استقلال ليبيا والأمم المتحدة: حالة تفكيك ممنهج للاستعمار" الذي ترجمه أخيرا د. محمد زاهي المغيربي، يتحدث أدريان بيلت عن أربعة رجال كان لهم دور رئيسي في إنجاز مهمته في الوقت المحدد، وفي ونيل استقلال ليبيا، ووضعها على طريق الوحدة التي تحققت بعد 12 عاما من الاستقلال بتعديل دستوري. رجال معدنهم ذهب، عرفهم بيلت عن قرب وفي أكثر مراحل ليبيا صعوبة، حيث الأوقات الصعبة هي التي تفرز معادن الرجال.

كان المفوض بيلت يكتب ويحلل ويخبر بحياد لدرجة أنه لم يستخدم في كتاب سيرة عمل هو بطلها ضميرَ (أنا) مطلقا، بل طيلة السرد كان يعبر عن أناه بـ (المفوض). حين جاء إلى أرض ومجتمع لا يعرفه محملا بمسؤولية كبيرة تتعلق باستقلال البلد ووحدتها ووضعها على طريق الدولة الحديثة عبر دستور ديمقراطي واجهته صعاب جمة، يتعلق بعضها بفقر هذه الجغرافيا لكل المقومات اللوجستية التي تساعد على إنجاز المهمة، بما فيها وسائل الاتصال والمواصلات وحتى أماكن الإقامة، إضافة للمساحة الشاسعة التي يسعى لتأسيس دولة فوقها، مع كثافة سكانية قليلة منقسمة إلى عدة جهات وتوجهات، يعاني أغلب سكانها من الأمية والفقر والأنيميا، غير أنه، كما يقول، خدمه "الحظ" في مقابلته لرجال نزهاء وطنيين "سيقومون بأدوار قيادية، من الداخل والخارج" يتمتعون بالحكمة والحنكة، ويحظون باحترام المجتمع، أو بالأحرى مجتمعاتهم لهم، ولا تثنيهم اختلافاتهم عن السعي صوب الغاية المشتركة. أربعة رجال يفرد لهم فصلا في كتابه، وسأنقل ما كتبه عنهم حرفيا، وبلغته المحايدة بعيدا عن أي عواطف أو انحياز أعمى، شخصيتان انحدرتا من خلفية دينية بوعي سياسي (السيد إدريس السنوسي والمفتي أبو الإسعاد العالم) سأفرد لهما هذه المقالة، وشخصيتان جاءا من خلفية سياسية واجتماعية أو مزيج بينهما (السيد أحمد بي سيف النصر والسيد بشير السعداوي) سأرجئهما للمقالة القادمة.

يقول بيلت في صدد حديثه عن السنوسي الذي غالبا ما يذكره بلقب "الأمير": "لحسن الحظ، وسط هذا الوضع الغامض كان هناك أمر عليه إجماع تقريبا، ولو لأسباب متنوعة، في جميع أنحاء البلاد، تحديدا، الاعتراف بأمير برقة، السيد إدريس، بوصفه الشخص الوحيد الذي يمكن أن يلتف حوله الليبيون رمزا للوحدة الوطنية. كون أن البعض فعلوا ذلك غالبا لأسباب دينية وتقليدية، بينما آخرون كانت تدفعهم اعتبارات سياسية، لم يُحدِث أي فرق بالنسبة لصدق تأييدهم.". وبعد توطئة مختزلة عن الحركة السنوسية وما تعرضت له من مد وجز فوق هذه الأرض، يذهب إلى أن التغلغل الفرنسي والبريطاني في شمال ووسط أفريقيا، متبوعا بالاحتلال الإيطالي لليبيا، أدى إلى "التأثير عميقا على الحركة السنوسية في الشمال الأفريقي وليبيا خصوصا، وأجبرها على القتال من أجل بقائها. وخلال ثلاثينيات القرن العشرين توقفت عمليا عن الوجود في ليبيا، ولكن روحها ظلت باقية، في شخص زعيمها، السيد إدريس. وفي حين أنه ظل في أعين الكثير من أتباعه زعيما روحيا في الأساس، فإن الظروف أرغمته على القيام بدور رجل الدولة الدبلوماسي، على وجه الخصوص في الدفاع عن سكان برقة.

أثناء إقامته في مصر، قاد نضالا سياسيا لتحريرهم من الهيمنة الإيطالية، وعاد إلى بنغازي بوصفه قائدا سياسيا بعد الحرب العالمية الثانية، عندما قررت الأمم المتحدة أنه يجب أن تصبح ليبيا دولة مستقلة ذات سيادة. وأدت هيبة إدريس وسلطته إلى تمتعه بنفوذ كبير.

بالنسبة للمفوض (كما يصف نفسه) الذي كان له شرف مشاهدته وهو ينجز هذه المهمة الحساسة للغاية، كان منبهرا وهو يراه يعمل. كان من الممكن أن يتوقع المرء أن رجلا في وضع الأمير سوف يرفع راية القومية العربية لإلهام مواطنيه في مسيرتهم نحو الوحدة والاستقلال. ولكن في الواقع، لم يحدث شيء من هذا القبيل، فقد كان الأمير يعرف مواطنيه معرفة جيدة بحيث لن يضع وتيرة عالية لا يستطيعون الحفاظ عليها. وقادهم بحرص بوتيرة يمكنهم تحملها دون إزعاج، وبالتالي أظهر ضبط النفس اللافت الذي يميز الزعيم المتأمل. وبالفعل، لم يأخذ على الإطلاق خطوة إلى الأمام ما لم يكن يعرف أن هناك من يستطيع أن، وسوف، يتبعه. وفي الوقت نفسه كانت نصيحته متاحة على الدوام. وإذا كانت هناك ضرورة، سوف يقوم بالمبادرة، ولكن حتى عندئذ ستكون، وكقاعدة، عن طريق زعماء مختارين اختيارا جيدا. وهنا كان يساعده حكمه الثاقب على الرجال والمواقف، ورفضه القيام بأي فعل دون تفكر عميق. ولكن بمجرد أن يتخذ قراراه لم يكن من السهل حمله على تغييره، ولو أنه في القضايا الخلافية كان مستعدا دائما للاستماع إلى أولئك الذين يختلفون معه، بإخضاعهم لاختبار النقاش عندما كان يشعر أنه من المناسب القيام بذلك. وعبر تصرفاته وسلوكه كان، ولا يزال، رجلا يملك ثقافة ومعرفة عظيمة ومع ذلك يعيش ببساطة وتقشف. وعلى الرغم من جسده الواهن، فإن قدرته على التحمل وسلوكه يعكسان كرامة عظيمة، تخففها في الجلسات الخاصة روح دعابة لطيفة وود هادئ مشع. أما المفوض، الذي كان دائما واعيا بجهله بالأوضاع المحلية، فسرعان ما تعلم ليس أن يحترم السيد إدريس فحسب، بل أيضا أن يقدر وبشكل متزايد، آراءه ويسعى لمشورته، حتى وإن لم تسمح الظروف دائما باتباعها. ولا يمكن لأي رجل في موقع الأمير أن يكون بدون أخطاء، وكان هناك دائما أشخاص، بمن فيهم بعض مواطنيه الأكثر إخلاصا له، مستعدين لانتقاد أفعاله وقراراته. ومع ذلك، يمكن القول دون الخشية من الوقوع في تناقض إن الكتلة الهائلة من شعبه تحترمه وتحبه بعمق، وغالبا إلى درجة التبجيل.".

وفي صدد حديثه عن الشخصية القيادية الثانية وعن حظه به يذكر أن ليبيا، وخاصة طرابلس، كانت "محظوظة أيضا في أن يكون لديها رجل آخر له مكانة مرموقة وهو مفتي طرابلس، الشيخ محمد أبو الإسعاد العالم، وهو ابن قاضي [كذا]، ولد في سوق الجمعة حوالي 1880 وتعلم بجامعة الأزهر في القاهرة. وعلى الرغم من مركزه القضائي ـ الديني، لم يتردد في أن يقوم بدور قيادي، أولا في الشؤون المحلية وبعد ذلك في الشؤون السياسية الوطنية. وبوصفه عضوا قياديا في الجبهة الوطنية، ولاحقا رئيسها، أصبح نائبا لرئيس حزب المؤتمر الوطني الطرابلسي وبالتالي تابعا لبشير السعداوي. ولكونه أيضا ذا عقلية مستقلة ــ وهي سمة جعلته بالنسبة لبعض الأشخاص مرشحا غير مقبول في لجنة الواحد والعشرين ــ وتمتع بثقة كثير من الأشخاص في أحزاب أخرى وكثير من المستقلين، ولكونه، إضافة إلى ذلك، يحوز على الاحترام في برقة وفزان، كان الرجل المثالي للقيام بدور الوسيط. وبسبب قوة شخصيته، كان يتعرض في بعض الأحيان لانتقادات شديدة ليس من حزبه فحسب بل أيضا في مجلس ليبيا. مع ذلك لم تحل هذه الخصومة دون انتخابه أولا رئيسا للجنة الواحد والعشرين، وبعد ذلك، رئيسا بالإجماع للجمعية التأسيسية الوطنية الليبية. (... وإذا كان قد نجح في ما بعد في التغلب على نقائصه وفي قبوله، تحت الإدارة البريطانية، مفتيا لطرابلس، فقد حدث ذلك لأن الناس كانوا مدركين بالكامل لنزاهته الجوهرية. وبعد الاستقلال أصبح مرة أخرى مفتيا لليبيا، بتعيين من الملك هذه المرة).

ولعل الدليل الأكثر بلاغة من درجة الثقة التي كان يتمتع بها كان قرار لجنة الواحد والعشرين الذي اتخذته بالإجماع في أكتوبر 1950 بتفويضه بمهمة وضع قائمة مرشحي طرابلس الذين سيمثلون طرابلس في الجمعية التأسيسية الوطنية. ولا يمكن إنكار أن قائمته لم تحصل على موافقة بالإجماع، ولكن لو كان الأمر قد تُرك لزعماء الأحزاب أنفسهم لما كان هناك على الأرجح اتفاق على الإطلاق. وفي المحصلة النهائية، جاء التأييد من البرقاويين والفزانيين، مدعوما بثلاثة من ممثلي طرابلس. وأكثر من أي شيء آخر استُبين من الحدث بما لا يدع مجالا للشك أن المفتي كان محط احترام واسع بوصفه رجلا متسامحا وليبرالي التفكير ويتمتع بهبة طبيعية للتسوية السياسية. والليبيون مدينون له بامتنان عميق.".

الملاحظ في هذه الشهادات التي تنم عن احترام لهذه الشخصيات، كونها، رغم خلفيتها الدينية، تتمتع بروح ليبرالية منفتحة على العصر ومرونة تجاه المتغيرات، بعكس ما حدث من تشوه في الشخصيات الممثلة للمؤسسة الدينية في هذه الفترة، حيث شكلت عقبة في طريق الدولة بتعصبها الأعمى ورجعيتها وانغلاقها ونزوعها الإقصائي الذي وصل لدرجة تكفير كل مخالف لها.