Atwasat

كاراكوز بازامة

أحمد الفيتوري الثلاثاء 11 مايو 2021, 05:41 صباحا
أحمد الفيتوري

لم تتح لي مشاهدته، رغم شغف سماعي به، فقد ولدتُ وعشتُ، في حى الصابري بمدينة بنغازي، ذا الصابري حي الفنون الشعبية في ليبيا، يكفيه أنه مركز فن المرزكاوي والغيطة. وكان الكاراكوز كما أعتقد فنا مدنيا، ليست له المقومات الشعبية، بمعنى أن الكاراكوز فن معروف بالتخصص، فهناك شخصية معروفة، تقدمه وتعده وحتى تؤلف له، وهناك مكان ما لتقديمه مثل غرفة مظلمة، وهناك جمهور متلقٍ منضبط، وكثيرا ما يلزم مقابل مادي للاستمتاع به. هذا ما جعل "كاراكوز بازامه"، الأشهر في تاريخ بنغازي الحديث، يقدم في قلب المدينة/ وسط البلاد بميدان البلدية. مع ملاحظة أنه في زمن ما قبل توفر المواصلات الحديثة، كان الحي بمثابة جيتو، والمدينة متباعدة عن أطرافها، حتى ولو كانت الأقدم، مما جعلها صعبة المنال على من مثلي يسكن حيا شعبيا، ولعل هذا جعل منى حتى اليوم، أهاب المباني الفخمة في المدن، كالفنادق خمسة نجوم، وكذلك أعتبر نفسي، لست من "أبناء المدينة"، ما يعادله في لهجة بنغازي "عويلة البلاد".

لم تتح لي مشاهداته، فكان لشغفي السماعي به أثر كبير، كان ذلك في أول الصبا، حين وجدتني أتلقط كل ما يدور حول الكاراكوز، ولم يكن كثيرا لكنه مكثف، فكاف إلى درجة أن أردت أن أكون "بازامة"، ولهذا استحوذت على صندوق كارتون فارغ من دكان أبي، ثم سرقت قطعة قماش بيضاء وشمعا من بيتنا، وكنت أصلا شغوفا بمجلات الأطفال والصور، أثناء بقائي بالدكان أغلب اليوم بعد المدرسة، بل وأثناء وجودي بالدكان وحيدا في انتظار عودة أبي، كثيرا حكيت قصصا لنفسي بصوت مسموع، منغمسا في قص صور الفنانين التي تباع مع اللبان المحلي، ومن قصقصة صور المجلات أيضا، صنعت كاراكوزي الخاص، وفي مخزن أبي المظلم قدمت عروضي لأطفال وصبيان الحي، وبعت التذكرة مقابل صورة.

لم تتح لي مشاهدته، لكن بِتُ صاحب كاراكوز، هكذا كان عتبة مخيلتي، لكن لم يستمر هوسي بذلك، وقد يكون ما حصل لي حصل لكاراكوز بازامة. فالعصر وتطوره جعل العالم يتشابك ويتداخل، التقنية قربت البعيد، فجعلت من بنغازي مدينة تستهلك آخر ما يُنتج، أما حي الصابري فقد بات كما حي سوهو في لندن، الراديو الترانستور في كل يد، السينما في كل حي، ثم سرعان ما كان بكل بيت تلفزيون.

آلة عرض لأفلام سينما صغيرة، كانت هدية خالي من يحبني كثيرا، ومع الآلة أشرطة و"يشي" شارلي شابلن، في مشاهد تستغرق دقيقة من مشهوره، فسيطرت على صغار الحي، وحتى بعض كباره المدهوشين/ المصعوقين مما ملكت، أسمح لمن أحب المشاهدة، وبدا وكأنني صاحب سينما بعد أن كنت صاحب كاراكوز، ما لم يتتح لي مشاهدته، ما تجاوزه العصر، وبهذا الحداثة ليست مفهوما تُقلبهُ العقول، ولكن الحداثة مجسدات حياة، فلم تصبح كماليات بل ضرورة لتحيا، كنت كمن يسكن في قلب العالم بالقوة والفعل معا، أي أسكن في لندن ولكن في حي الصابري. فبعد فترة قصيرة من عروض "ويشي"، نجحت في المدرسة بتفوق، فشاء أبي، من يبدوغار من هدية خالي، أن يهديني جهاز "بك آب"، لأجل استخدام الاسطوانة، ما جلبها لي من لبنان، عامل لبناني يعمل ببنغازي، ويشتري حاجياته من دكان أبي، من صار صديقه إلى جانب أنه زبونه، وكنت كتبت، عن أن الاسطونة: أغنية فيروز "غنيت مكة"، وأن من أهداها لي مسيحي لبناني، مازلت أذكر أسمه رغم الزمن، يدعى "نخلة الأشقر".

لم تتح لي مشاهدته، رغم شغف سماعي به، كاراكوز بازامة، ما كان يعني فن الطفولة، التي بالنسبة لي وأقراني كانت الجدة سيدتها. فثقافة الطفل مهمة وضرورة، أوكلت للجدة فيما سلف من الزمان، فهل نعتبر أن التقنية الحديثة، قامت مقام الجدة، فيما يخص هذه المهمة؟.