Atwasat

لو بشق التمرة!

محمد عقيلة العمامي الإثنين 10 مايو 2021, 11:01 صباحا
محمد عقيلة العمامي

خلال خمسينات القرن الماضي انقسم "حزب الأحرار" الحاكم، في كولومبيا، على نفسه؛ لأنه خسر انتخابات الرئاسة أمام حزب المحافظين، الذي قام بثورة مجنونة: عزلوا وطاردوا القادة والعمداء والمديرين وجميع من كانوا ينتمون إلى حزب الأحرار! أصبح إطلاق النار والقتل، والاختفاء القسري، والقبض والسجن أمرا شائعا، وسيطر قطاع الطرق، والمغامرون والمجرمون على البلاد و "قطَعوا طرقاتها"، فأصبح قُطاع الطرق هم القانون والدولة والجلادين. قُدر أنه خلال خمسة عشر عاما فقدت كولومبيا حوالي ربع مليون نسمة، أغلبهم قضوا من دون سبب يذكر!

لم يستقر الحال، في كولومبيا إلا بعد انتخابات الرئاسة في 6 مايو 1962 ولم تتوقف الفوضى إلا بعد 52 عامًا من القتل المتبادل بين المتمردين والقوات الحكومية، وراح ضحية ذلك العنف مئات الآلاف من المدنيين، وعشرات الآلاف من المفقودين، فضلًا عما يقارب سبعة ملايين نازح. فلقد نشطت عمليات الخطف بغية الحصول على فدية، كما لغمت الطرقات وحالت دون وصول الأطفال إلى مدارسهم، فتأثر التعليم حد الكارثة.

تقول المصادر إنه خلال تلك الفوضى، كانت هناك "سيدة قصيرة بدينة" ذات شعر أشيب تعتلى صهوة بغل، تضع على رأسها قبعة بيضاء بحواف عريضة، تنتعل حذاء رياضيا، وتنفث بشدة دخان سيجار رفيع أسود، وما إن تصل قرية، حتى يلتف حولها القرويون، فتأخذ قيثارتها وتغني لهم، قبل أن تباشر عملها، الذي تشرع فيه بمجرد اختيار موقع قريب من القرية، وغالبا ما تنتقي قطعة غير خصبة وتخططها لتبني فوقها مدرسة.

ذات مرة، سنة 1947 إبان انقسام حزب الأحرار وقيام الثورة، وقبل أن تترجل، وصلت عصابة تتصايح، والتفوا حول المتحلقين حولها، وكان يقودهم رجل قبيح ملتحٍ، يبدو أنه مخمور، ممسك ببندقيته ينفث دخان سيجارة، وأمرهم بالتفرق. لم ينصاعوا لأمره فأطلق نيرانه، فتفرقوا من بعد أن قتل منهم أربعة أشخاص، وزيادة في وحشيته، ترجل وقطع رأس أحد الضحايا ودحرجه أمام السيدة، فتصرفت وكأنها مرعوبة، ونغزت بغلها والتفت به، غير أنها اتجهت نحو مخفر القرية، وساعدتهم في القبض على تلك العصابة.

في بداية تلك الثورة، أو الفوضى، كان والدها قد قتل أحد الأشخاص دفاعا عن نفسه، لكن ذلك لم يعفه من طرد ابنته، من سلك الرهبنة، التي كانت قد قامت بالتدريس به لمدة 12 عاما، من بعد تخرجها في المدرسة الثانوية، واهتمت بالأعمال الخيرية، وأوفدت مع 17 راهبة في مثل عمرها لتأسيس أديرة وبعثات تبشريه في: جواتيمالا، وسلفادور، وكوستا ريكا، بل وحتى المكسيك، لكن كل ذلك لم يشفع لها في الطرد من سلك الرهبنة! فكان القرار الديني الظالم، سببا رئيسيا في انتشار التعليم وارتفاع مؤشراته، إلى درجة جعلت كولومبيا من الدول البارزة في التعليم.

كل ذلك بفضل السيدة القصيرة البدينة، عازفة القيثار؛ اسمها "ايلاديا ميجيا - heladia mejía" والتي تقول المصادر إنها شيدت بمجهودها الفردي 138 مدرسة. ولدت سنة 1891 وفي سنة 1960 بلغت 82 عاما، وأصيبت بالسل الرئوي وماتت بسببه في السنة نفسها.

ورثاها حاكم ولاية "بالداس"، قائلا: "..لقد دربتْ من قرويي القرى البعيدة، عن المدن، من يشيد الجدران ويسقف الأسقف، ويعد المقاعد وتُعلم من تكتشف إمكانياته ليصبح مدرسا، وترعى المدرسة حتى يصبح بعض تلاميذها مدرسين، بعدها تنتقل إلى قرية بعيدة وتشيد مدرسة أخرى! إنها مجموعة رجال؛ لأنها تقوم بعمل عشرين رجلا في آن واحد، ولو كان لكولومبيا عشرون رجلا مثلها لقضينا على الأمية في بلادنا..".

المدارس التي أسستها أصبحت من أهم أسباب النمو التعليمي، بل والعجيب أن تلك المدارس تطورت، وأصبحت حتى الآن من أبرز المعاهد التعليمية الناجحة والراقية، وتضاعفت أعدادها. وتأتي كولومبيا في المرتبة 95 في التصنيف العالمي للإنفاق على التعليم، ويبلغ معدل إجادة القراءة والكتابة لمن هم في سن أعلى من 15 عاما حوالي 94.2%.

ويقدر أن نسبة الذين يجيدون القراءة والكتابة في كولومبيا الآن تبلغ 91% من نسبة السكان. وتعد الجامعة الوطنية في كولومبيا أكبر مجمع تعليمي، إذ تضم أكثر من 46 ألف طالب مسجل في المرحلة الجامعية. 

وفي العام 2000 كشفت دراسة قامت بها منظمة اليونسكو، أن كولومبيا هي البلد الوحيد، في العالم، الذي يتفوق فيه التعليم الريفي على التعليم الحضري، في أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي كافة، ولعل ذلك بسبب تلك السيدة القصيرة السمينة!

ليست غايتي الحديث عن تاريخ كولومبيا ولا عن تطور التعليم في بلادهم، لكن خلال الشهر المبارك، وفيما أتابع البرامج المصرية، أخذت بهذا الوعي الإعلامي المتميز، الذي نجح في إقناع المشاهدين بضرورة مساهمة القادرين على تأسيس المستشفيات لغير القادرين على الحصول على الرعاية الطبية لتلك الحالات بالغة التكليف، وتجدر الإشارة إلى أن هذه المؤسسات القائمة على مساهمة المواطنين، أعلنت أنها ستقوم بعمليات قلب مفتوح لعدد 300 طفل، خلال شهر رمضان، على أساس عشرة عمليات يومية وهذا ما ينفذ باقتدار بإحصائيات تعلن يوميا، إعلام مصر الرمضاني يعلن عن مشاريع خيرية عديدة يصعب كثيرا حصرها في هذه المقالة! لدرجة أنه مجرد اتصال برقم محدد، وإرسال كلمة واحدة كفيل بإيصال تبرع المرء، الذي تكون قيمة أحيانا مجرد قيمة "شق تمرة".

هذا النجاح في تأسيس عدد من المستشفيات التخصصية، جعلني أتساءل: هل الذين نهبوا أموالنا وأحالوها إلى خارج البلاد، سواء باعتمادات وهمية، أو رشاوي، أو عمولات! مجرد مخلوقات، خلقها الله بدون ضمير؟ وهل لم ينتبهوا إلى أنهم معروفون اسما ووظيفة، ومكان إقامة! وهل سمعتم عن أحد منهم تبرع لعمل تطوعي ما؟ بالله من منكم يعلم يخبرنا، لأنني لم أسمع أو أرَ سوى شكر لبضعة أسماء ليبية ساهمت في نجاح مقاه عالمية، انتشرت في مولات العالم كله فشكرت دعمهم لها!

لم أسمع، في هذه السنوات العجاف، أبدا عن مقتدر تفضل بمساهمة أو تولى مشروع عمل خيري سوى مرة واحدة، عندما أعلن السيد حسني بي تبرعه ببناء جزء مهدوم من الجامعة الليبية، أو ذلك المجهود الخارق الذي يقوم به مجموعة من رجال ليبيا الخيرين، ينسق أعمالهم السيد العربي حويو، قد يكون غيرهم كثيرون، وينبغي أن نثمن، ونبارك من يقومون به، فمثل هذه الأعمال هي من أساسيات العمل المدني الميداني.

غير ما ذكرت، لم أسمع إلا أمر إخلاء دار الرعاية! ومن دون أن أعرف من أصدر هذا الأمر؟ أو لماذا أصدره؟ وفوق ذلك لا أحد يعلم أين يذهب من لا ولي له إلا الله! بلادنا لن تقوم أبدا ما لم تفسر "شق التمرة" تفسيرا واقعيا.