Atwasat

العبودية الطوعية

رافد علي الخميس 06 مايو 2021, 12:54 مساء
رافد علي

الاديب الكبير توفيق الحكيم في روايته شهرزاد* يُبيّن أن العبد يموت بانتهاء نظام عبوديته أو بسقوط سيده. ويبدو ذلك جلياً في حوارية بسيطة بين شهريار وشهرزاد، وهما يلتقيان "وجها لوجه يمثلان ذلك التصادم العارم بين قلق الإنسان وسرّ الأشياء".
"- هل تعرف كيف يُقتل العبد؟

- كيف؟!.
- بتحريره."

توفيق الحكيم، بحكم دراسته بفرنسا، لابد وأنه اطلع، أو سمع بمقولة العبودية الطوعية للمحامي الفرنسي دو لا بويسي، التي كتبها في سنوات عمره المبكرة، إلا أنها لم تنشر في حياته، بل صديقه مونتانييه قام بنشر أعماله لاحقاً، باستثناء مقالة العبودية الطوعية، التي يرى البعض أنها تسربت للعامة وتم توظيف بعض من فقراتها أيام الحرب الدينية. لقد ظهرت أعمال لا بويسي في مجلد الأبحاث لمونتانييه بعد أن هدأت الأحداث بفرنسا وسكن الاستبداد بكل القمع فيه وجبروت سياط الأسياد.

مقالة العبودية الطوعية تأتي في حوالي الـ 60 صفحة. واكتشفت كاملة في القرن الـ 19، وهي تنصب بكل الأسى الذي خطه مؤلفها حول ظاهرة استسلام الشعوب للاستبداد وأنظمته.

إيتيان دو لا بويسي، ولد بمدينة سارلا شرق بوردو لأسرة ميسورة الأحوال، وعمه الذي رباه كان رجل دين، مما أتاح للا بويسي أن ينشأ على التعاطي مع الإنسانيات اليونانية القديمة، وإجادة اللاتينية كونها لغة المعرفة والثقافة حينها. تخرج من جامعة أورليان كَحامٍ، وعُين قاضياً في برلمان بوردو بمرسوم ملكي، في حين كانت فرنسا تشهد حرباً بين الكاثوليك والبروتستانت.

ظهرت مقالة العبودية الطوعية لأول مرة كاملة عام 1835، وتبدو أهميتها في اهتمام المشتغلين بفلسفة السياسة وعلم الاجتماع السياسي بها، لأن عصرنا منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية صار يعج بأشكلة أوضاعنا بالاستفهام: هل استغلال الإنسان للإنسان هو أساس السيادة؟! أم أن السيادة تتمترس في جذور أخرى ما كان للاستغلال ليستتب بغيرها في صورة الدولة؟!. يقول لا بويسي في مقالته: ".... هؤلاء الأتباع يعملون بوحي مزدوج من لذة الخضوع واستكمال المنفعة".

تظهر أهمية مقالة العبودية الطوعية في كونها كتبت في أوج الإرهاصات الفكرية في علم السياسية بالقارة الأوربية، لتسليط الضوء علي قضايا الاستبداد والإنسانية لأجل إيجاد تفاسير أدبية وعلمية تحول دون استمرار استساغة العبيد "الشعوب" لحالة عبوديتها من قبل ملك أو حاكم ما كان له من القوة والسلطان إلا ما منحته هذه الشعوب ذاتها لهذا الظالم، فاستبد واستخف ومارس الطغيان في شعب اعتاد الصمت وممارسة الخضوع. لقد كانت المقالة التي اُختلف في سنة كتابتها؛ مطعمة بالروح الإغريقية والعنفوان الروماني في مجابهة الطغيان.

لقد كان القرن السادس عشر الميلادي قرن الفكر السياسي وفلسفته، فقد تم إحياء كتاب السياسة لأرسطو، وكان ميكافيلي بإيطاليا، وتوماس مور في انجلترا يؤسسان لمنهجيات أخرى، كما كان للوثر ولكالفن أن يخوضا في السياسة، ولو عند الهوامش، ضمن نهجهما للإصلاح الديني، فالنزعة الإنسانية مع الإصلاح الديني كانتا في حالة امتزاج لأجل جعل أوربا مكاناً أفضل للبشر تتجاوز فيه الإنسانية الطغيان والاستعباد الذي ينهش تلك البقاع من الأرض.

بتتبع السياق التاريخي لكاتب المقالة وقصة ظهورها على شكل مقتطفات أولاً، إلى حين صدورها كاملة، سيتضح لنا أيضاً أن تلك الفترة كانت الكتابة فيها غزيرة، وأن النقد بتلك الحقبة التاريخية كان لاذعاً، حتي في الكتابات الشعبية التي تخلت عن اللاتينية لتكتب باللغات المحلية علي امتداد القارة، كإرهاص آخر لبروز مفهوم الدولة القطرية في أوربا، ولقد عرفت هذه الكتابات، ولازالت، بكتابات نقد الإصلاح اللاذع. كما أن الطبقات الراقية في مجتمعاتها قد برز تناولها لكتابات فرانسوا هوكان صاحب تفاسير القانون المدني، وواجب القضاة لتيودور دوبيز، وهي من كتابات متمردة على الظلم وتنادي بطرح بديل للقائم. فحتى ولم يكن ثمة جزم بأن لابويسي لم يكن ملماً بكل ما يجري من أحداث عنيفة تناهض الطغيان في هولندا وألمانيا وبولندا، فإنه من المهم الاعتراف بأن لا بويسي من بين الرواد الذين عملوا على تغييّر واضح في الأفكار بأوربا، من خلال "إنشائية" ثرية ومُطعمة بالإنسانيات من الإغريقية والرومانية. إلا أن البعض يعارض فكرة أن المؤلف كان يناضل ضد الطغيان والاستبداد، ويشجب العبودية الطوعية التي كانت سائدة. فمن تعاملوا مع رسائل لا بويسي لأصدقائه، أمثال سانت بوف، يؤكدون بأن الكاتب "كان لا ينوي مواجهة الطغيان" بل كل ما كان يفكر فيه هو الهروب والتلاشي من واقعه المأزوم ببلاده بكل القلاقل والمحن حينها. يقول سانت بوف بحديث الاثنين إن المؤلف كتب إلي صديقه دوبيلو يقول:
"إن العنف أمر وحشي، وإن قلبي لينزف بسبب ذلك، لكنني عقدت العزم على القيام بوداع طويل وأبدي لهذه الأرض التي ولدت فيها... إلى أي مكان وبأي طريقة كانت".

أول من ترجم وتعامل مع مقالة العبودية الطوعية، حسب ما تسنى لي الاطلاع عليه، هي نشرة دارالريس، إذ نشرت الدار كتاباً بعنوان "كيف تفقد الشعوب المناعة ضد الاستبداد" كطبعة أولى عام 2001، وبتقديم من المفكر الإسلامي جمال البنا، ثم قامت المنظمة العربية للترجمة، بلبنان بنشرها في ديسمبر 2008، ترجمة عبود كاسوحة. وفي الواقع أجد أن ترجمة كاسوحة أكثر عمقاً، إذ تمتاز بالكشف التاريخي وشرح للأوضاع بشكل أعمق، بما يشرح أبعاد المقالة قبل أن ينشرها في آخر الكتاب. في حين أن الكتاب الصادر عن الريس اتسم كدراسة بحس يميني محافظ يحاول التعامل مع المعضلات التي تلقي المقالة عليها الضوء بأسلوب يمزج الشعر بالتعقيبات والتعليقات.

التيار الإسلامي، أو المحافظ بعالمنا لم يكن بعيداً عن تناول الاستبداد والطغيان وأشكلة واقعنا معه، فالشيخ الكواكبي له إسهامه في هذا المجال من خلال كتابه الشهير "طبائع الاستبداد"، الذي نشر بطبعة منقحة في الذكرى المئوية لوفاته عن دار النفائس بلبنان. كما يمكن، حسب وجهة نظري، إضافة كتابات المرحوم مالك بن نبي إلى هذا الصنف من الكتابات خصوصاً مقالته التي تتحدث عن "القابلية للاستعمار" ضمن مشكلات الحضارة. المرحوم مالك بن نبي كان في فرنسا يطلع على إنتاجات الفكر، ويتعاطى معها بالفرنسية مخاطباً أبناء جلدته الذين التهمتهم سياسة الفرنسة في الجزائر لأجل أن يتحرروا بهويتهم المسلمة، وبما يصون كرامتهم الإنسانية. الشيخ الكواكبي سمحت له ظروفه الأسرية العريقة بأن يتعلم التركية العثمانية والفارسية مما أتاح له قدراً من الاطلاع على شئون السياسة وعالمها المعرفي، رغم أن الدكتور أحمد زيدان يرى أن طبائع الاستبداد يعد "كتاباِ محدوداً لأنه صادر عن غير متخصص".
عالمنا الإسلامي اليوم بكل الطغيان والاستبداد فيه، لازلنا كشعوب لم نتناول حالة عبوديتنا بشكل جدي، بما يتجاوز مرحلة الآيديولوجيا وتقليعة "اللامنتمٍ" فيها، وتشيع بيننا اليوم مفردات تحوم حول عبوديتنا الطوعية هذه كمفردة "اللامبالاة" و"السلبية" و"المبنجون"، لكننا لم نسمع عن دراسة اجتماعية تفرش القضية وتتعامل معها بشكل مفتوح وبموضوعية واستقلالية تامة. إنسانياتُنا لازالت محتشمة، وخطابنا الديني لازال يصر على صياغته، بلا أي انتباه لدوران الأرض حول الشمس، وأننا نقبع في آخر الصفوف. فمتى يشتعل الوعي فينا بشكل أكثر حيوية؟! "أم على قلوب أقفالها"؟!.

* "شهرزاد" مسرحية وليست رواية (المحرر).