Atwasat

مسارات تتربص بالحلم الليبي

سالم العوكلي الثلاثاء 04 مايو 2021, 12:11 صباحا
سالم العوكلي

من أكثر أوقات الليبين فرحا مشاركتهم لأول مرة في أول انتخابات تشريعية في اليوم السابع من الشهر السابع العام 2012، وفي تلك اللحظة التي كانوا يلتقطون فيها الصور مع أصابعهم المصبوغة بحبر الانتخابات كانوا يحسون أنهم يبصمون على مستقبل ليبيا الواعد، وكان حلمهم بدولة مدنية ديمقراطية يشرق للمرة الأولى بعد عقود من دولة الاستبداد، وعقود من حسرتهم وهم يتابعون طقس الانتخابات في أنحاء عديدة من العالم وكأنهم يعيشون خارج الزمان وخارج الكوكب. اختاروا مسار دولتهم الجديدة عبر إعلان دستوري في انتظار بقية الاستحقاقات والفرح بتغيير جذري يستجيب لمزاج العالم المتحضر الذي كانوا يتفرجون عليه بحسرة، وكانوا في انتظار بقية أثاث الدولة الجديدة من دستور دائم وانتخابات رئاسية وما يتبعها من جهاز تنفيذي يحقق لهم الرفاه والتمتع بخيرات بلادهم عبر مشاريع تنمية في كل المجالات، وكان الشعور الذي يغمرهم أنهم تخلصوا من النظام الذي كان يشكل عقبة أمام هذه الأحلام وأصبح الانطلاق ممكنا بعد أن عاشوا زمنا طويلا في ظل المقايضة التاريخية التي نهض عليها الطغيان: توفير ضرورات العيش والأمن مقابل الاستكانة والطاعة لسلطة الفرد المطلقة ونظامه الخاص.
اختار الليبيون جسمهم التشريعي الأول الحري به التأسيس للدولة الجديدة، واستكانوا إلى خدر الأحلام الذي تهدهده ثقة عمياء في كون هؤلاء الممثلين لهم عانوا لعقود ما عانوه، وسيكونون في حجم المسؤولية والأمانة. لكنهم تناسوا منطق الثورات المعتاد التي غالبا ما تُسْرق من الانتهازيين والفاسدين وقت انشغال الشعب بنشوة الحرية، وتحول أول جسم إلى غرفة عمليات للتحكم من جديد في المجتمع، مدركين أن احتكار المال والسلاح هو الطريق إلى السلطة المطلقة، واستخدموا الشعارات الدينية لدغدغة وجدان شعبي متدين مازال فيه مكان شاسع قد يستجيب لتراتيلهم التي سيصلون بها إلى السلطة والنفوذ. غير أن ما حدث أن هذا الوجدان المشبع بلذة الخلاص فاجأ العالمَ حين أشاح بأوراق الاقتراع عن أصحاب هذه التراتيل، واختار الناخبون تكتلا وطنيا شعاره المعرفة، سُمي وقتها في وسائط العالم بالتيار الليبرالي، وهو تحالف القوى الوطنية برئاسة الدكتور محمود جبريل الذي اكتسح صناديق الاقتراع في أول انتخابات حرة ونزيهة بشهادة كل المراقبين. لم يستخدم الشعارات الدينية ولم يدغدغ مشاعر البسطاء، لكن ما جعله يجتاح الصناديق هو البرنامج الذي قدمه، وهو برنامج من صياغة رئيس التحالف الذي لم يكن ساحرا أو مشعوذا كغيره، بل كان برنامجه الانتخابي نتاج سنوات من الخبرة، عمل فيها أمينا لمجلس التخطيط الوطني، ومديرا لمجلس التطوير الاقتصادي، فضلا عن مشروع رؤية ليبيا 2025 الذي أداره وأشرف عليه مع فريق من الخبراء الوطنيين، كل ذلك جعله يدرك عبر الدراسات المعمقة، وعبر الإحصاءات والأرقام: ماذا تريد ليبيا كي تنهض، وصاغ برنامجه الانتخابي وفق هذه المعرفة لكل مقدرات وإمكانات وآفاق تقدم هذا المجتمع، واستجاب الناس لهذا البرنامج لأنهم أدركوا أنه يضع أصبعه على الجرح الليبي النازف منذ عقود. كان برنامجا مقنعا لكل من عانى من الفوضى وإهدار المقدرات والفساد وإقصاء الكفاءات وفقر التخطيط المستقبلي العلمي، مثلما كان مقنعا لمؤسسات دولية كثيرة رأت فيها إمكانية تجربة نجاح أخرى في ما يسمى العالم النامي.
لكن هذا البرنامج كان في الوقت نفسه عقبة أمام تيارات تريد أن تذهب بالبلد والمجتمع إلى اتجاهات أخرى، صاحِبُ هذا البرنامج أيضا أصبح عقبة أمام سياسة التمكين لهذا التيار التي شرع في هندستها من أجل أن تحل أيديلوجيته الأممية بدل أيديولوجية النظام السابق الأممية. فكانت فكرة تفصيل قانون غاشم يزيح هذه الرؤى ومن وراءها من الطريق، وكان قانون العزل السياسي الذي فُصِّل من أجل هذا الهدف لا غير، ولعب التهديد والوعيد والمال السياسي الفاسد دورا تحت قبة المؤتمر الوطني كي يصدر هذا القانون الذي حذر منه الكثير من المثقفين ومن خبراء المصالحات الوطنية ومن مؤسسات الحقوق الدولية، لكنه صدر في النهاية وكان هو الطلقة الأولى التي دشنت كل الحروب التي تبعته.
دخلت البلاد في فوضى عارمة بعد ما دشن المؤتمر الوطني وحكومته بيئة الخراب التي سنعيش في ظلها السنوات التالية، وكل ما حدث كان تداعيات أخطاء هذا الجسم الذي هو نفسه نتيجة تداعيات نظام شمولي حكم أربعة عقود.
رغم كل ذلك حاول الليبيون، أو الواعون منهم، التمسك ما وسعهم ذلك بإفرازات ذلك المسار، ومهما كانت تلك الإفرازات سيئة أو غير ملبية لرغباتهم اعتبروها جزءا من المشاكل والمتاعب التي تحدث على الطريق، لأن التفريط فيها كان يجعلنا أمام خيارات أحلاها مر، إذا ما أُجهِض هذا المسار الذي لم يبقَ منه سوى مجلس النواب، ورغم ما تعرض له من أخطاء ومن انقسامات وحتى فساد، ظل هو العِرق الوحيد الذي مازال ينبض في مسار الدولة الديمقراطي المرتبط بالانتخابات. أما المسارات الثلاثة التي كانت تتنازع الأرض والمجتمع فهي: إما دولة عسكرية، أو دولة دينية، أو دولة الميليشيات التي تحاول أن تتنكر في هيأة دولة مدنية، وعلى خط المسار الذي اختاره الليبيون بدأت سياسة الأمر الواقع دوليا ومحليا تجتاح الخيارات، وبدأت الأجسام التي يفرخها الأمر الواقع تتشكل في كل مكان. خرج المجلس الرئاسي الأول بتدبير دولي وتنافح محلي لكنه فُرض على أغلب الليبين ومنه انبثق جسم جديد (مجلس رئاسي بسبعة رؤوس) كانت ميزته الوحيدة أن يكون نتاجا للجسم الوحيد المتبقى من إرادة الليبيين الحرة، وهو مجلس النواب، وإذا ما اكتسب شرعيته من هذا المجلس المنتخب فإننا على الأقل مازلنا على الطريق الصحيح رغم كل ما فيه من حفر ومطبات، غير أن هذا الجسم الجديد أدار ظهره لمجلس النواب ولم يستكمل استحقاقاته التشريعية لتكتمل شرعيته، ورمى بنفسه في أحضان اعتراف المجتمع الدولي رغما عن الإرادة الوطنية، وتحول إلى ما سمي حكومة وفاق دولي بدل أن يكون حكومة وفاق وطني، ودائما كان يتبجح بهذا الاعتراف رغم ما تسبب فيه من تشرخات في الوطن والمجتمع. لم يُضمّن الاتفاق السياسي في الإعلان الدستوري، ولم يعتمد مجلس النواب الحكومة، ولم يُقسِم أعضاؤها أمام البرلمان من أجل نيل الشرعية، لكن طالما العالم راض عن هذا الجسم لتذهب شروط الشرعية الوطنية إلى الجحيم، أو بمعنى آخر فليذهب الليبيون وخياراتهم ومسارهم الديمقراطي إلى الجحيم، فما يحتاجه العالم حكومة معترف بها دوليا يمكن توقيع الاتفاقيات معها، بما فيها الاتفاقيات التي تهدد الأمن القومي والسيادة الوطنية، ثم من مكان غير منظور خرج علينا جسم آخر من مكنة تفريخ الأمر الواقع، وهو ما سمي مجلس الدولة الأعلى، الذي حذف من اسمه كما ورد في الاتفاق السياسي مفردة (استشاري) ليصبح أعلى سلطة قسرية لم ينتخبها الليبيون ولا رأي لهم فيها، وهو يتكون من بعض أعضاء المؤتمر الوطني السابق، سيء الذكر، الذي وضع ليبيا على طريق الخراب والحروب والفساد. وسيطر تيار الأخوان على المجلس الرئاسي وعلى مجلس الدولة ليسيطروا من خلالهما على البنك المركزي ومؤسسة النفط وشركة الاستثمار كثالوث غير مقدس في ليبيا أصبح سبب خرابها بدل أن يكون مبتدأ صلاحها.
هيمنة طرابلس تعني هيمنة دولة الميليشيات التي يقف خلفها تيار الإسلام السياسي عبر تحكمه في مصادر الثروة والتمويل والسياسة الخارجية التي تجعل من هذه الميليشيات واقعا بالنسبة للمجتمع الدولي يمكن إدماجه في أي حل، وهيمنة بنغازي ــ كما يذهب الكثيرون ــ تعني هيمنة الدولة العسكرية التي بقدر ما تشكل تهديدا لمخطط جماعة الأخوان تشكل تقويضا للمسار المدني الديمقراطي. وخلف هذا الصراع وهذه الخيارات المتزاحمة يقف المواطن الحالم بدولته المدنية ومشاركته الفعلية فيها، يقف بعيدا في زاوية غير منظورة، لا تلتفت إليها القوى الدولية ولا الإقليمية ولا قوى النفوذ المحلية على الأرض. وطالما الأغلبية الصامتة غائبة عن المشهد، أو في انتظار العودة له في انتخابات ديسمبر القادمة، فإنها ستظل منسية، خصوصا وأن السلطات الأخيرة المتمخضة عن حوار جنيف تعمل في ظل دولة الميليشيات (معها أوضدها) بل هي جزء أصيل منها، وإيجابيتها الوحيدة أنها نالت ثقة البرلمان كآخر حلقة في المسار السياسي، وحقيقة لا تَعِدُ سلطات الغفلة هذه بالكثير فيما يخص انتظار الليبيين للقيام بمهمتها في تهيئة بيئة مناسبة لاستئناف المسار الديمقراطي كما تعد مبادرة مفوضية الأمم المتحدة التي مازالت تعمل في ظل سياسة الأمر الواقع، وفي ظل "ليس بالإمكان أبدع مما كان".