Atwasat

تراجع الربيعيات.. عجز نخبوي وعزوف أُمة

رافد علي الأربعاء 28 أبريل 2021, 12:02 مساء
رافد علي

لخص المفكر المعاصر المرحوم محمد عابد الجابري دراسته النقدية "العقل السياسي العربي" في الثالوث: القبيلة، والغنيمة، والعقيدة. دراسته المشار إليها ركزت على تحليل النصوص منذ انطلاق الدعوة إلى قيام الدولة الإسلامية في العصور الوسيطة، دون ملامسة التيارات والنزعات المعاصرة كالليبرالية والقومية والإسلامية، باعتبارها تستوجب بحثاً مستقلاً يقوم على ما سماه "عودة المكبوت" باعتباره نواة لهذه التيارات يمكن إيجاده في التراث العربي أو الإسلامي ضمن نظرية "التبيئة" التي يتبناها في مشروعه الفكري.

إسقاط هذا الفكر علي حالة الصراع الدامي، والتصادم اللامتناهي بهمجيته في ليبيا يدفعني للقول بان حالة الصراع عندنا تقع خارج نطاق "عودة المكبوت". إذ إن الثالوث المذكور اعلاه يظل هو عماد الخيبة الشديدة وأبعادها الهزيلة كهزيمة لدواخلنا كجيل صاعد يناجي غداً أفضل.

قد يتفضل أحدكم هنا بالدفع بأن فبراير قامت لأجل "دولة المؤسسات والقانون" بما يتجاوز مسميات الثالوث أعلاه، لكني سأدفع بالمقابل بأن حالة الانسداد السياسي والفشل العارم يفرض نفسه بانعدام رؤية واضحة في ليبيا أولاً، وعربياً عموماً. إذ تبدو حالة الإفلاس في حيز الإرهاص الليبي مفلسة ومشلولة. وتظل "دولة المؤسسات والقانون" في العموم، شعاراً سياسياً لازال سجين الخطاب السياسي العربي المأزوم عموماً بانفصاله عن الواقع منذ مطلع التاريخ الحديث حتي الساعة. فالربيع التونسي ارتمي في أحضان رجالات الأمس من بورقيبيين وشبيبة بن علي. في حين ربيع مصر تراجع عائدا للمؤسسة العسكرية أكثر "المؤسسات تنظيماً وانضباطاً" في بلاد الكنانة. سوريا، ضاعت في تداعي مشرع نابوكو للغاز وأطرافه، وانعدمت بالتالي البدائل للعنف وللدمار.

في ليبيا، انقلب الثالوث "قبيلة وغنيمة وعقيدة" ليكون مِحنا لاتزال آثار مفاهيم الخلافة والزعامة والإغارة فيه بارزة ببصمات العصور الوسطي يقودها ساسة متواضعون والمليشيات محدودة الأفق، وغير المكترثة بقضيتي التأسيس والبناء لدولة المؤسسات والقانون، لا استراتيجياً ولا فكرياً. وإن رُددت مفردات "مؤسسة" و"قانون"، فهي أفواه غير مدركة لما تتفضل به لانعدام التأصيل الفكري المكثف، خصوصاً من العامة أو "الرعية"، التي تعوزها نخبة "حقيقية" قبل أن تكون "حيوية".

فالنخب العربية الواعية بعصرها، خصوصاً في دول الربيعيات، تبيّن أنها لازالت كطبقة مثقفة انحصر مجالها أمام صوت الانتماءات الضيقة التي صار لها نخبتها الخاصة في عصر الثقافة المتلفزة والجوال والانترنت، فجميع هذه الوسائل قد أتاحت خطاباً قبلياً أو جهوياً للعوام وللمهمشين للاطلاع وسط إعلام غير مستقل. فما صار يحدث هو أن الأنساق الثقافية للنخب وللجماهير أو العامة أمست في حالة تتراوح بين التمازج، أو التنافس محدود المدي حينما يتنامي الحس النقدي للمتلقين لهكذا طرح قبلي أو جهوي حسب تنظير عبدالله الغذامي في كتابه الثقافة التلفزيونية. سقوط النخبة وبروز الشعبي.

لقد دأبت الأنظمة العربية السابقة في دول الربيع على تقديم مجتمعاتها للعالم بشكل مغاير يخفي الكثير من الحقائق لأسباب مختلفة. ففي تونس التي ظل شعبها يتشرب البورقيبية لعقود، من كان يتصور أن ذاك الشعب يمنح الأغلبية الانتخابية للتيار المحافظ!، كما أننا لم نكن نعلم بأن الشعب اليمني الجميل يعتبر إحصائياً ثاني اكبر مجتمع مسلح علي وجه الأرض بعد الولايات المتحدة*. وفي ليبيا، استقرارية البلاد وسهولة التنقل، وتداخل الوشائج الاجتماعية من كافة جهات البلاد في تفاعلية اجتماعية مفتوحة روجت إعلامياً بأن الوحدة الوطنية خارج نطاق أي سؤال، إلا أن الواقع الليبي كشف لنا عن مدي ترسخ القبيلة في العقول، رغم حالة الترويج من النخب المعارضة للقذافي حينها بأن القبيلة كانت دائماً ورقة سياسية للنظام.

لقد اتضح مع ربيعياتنا المتعثرة مدي ضعف تمسكنا بالمدنية وعمق حسنا بالقانون، وكُشف عن مدى أن القبلية والجهويات عنصر هام تستخدم في الحشد والتعبئة، فالنخب النافذة في ليبيا تعول على القبيلة في صراعها السياسي على المغانم ليس لأن الثقافة الحزبية منعدمة في ليبيا على وجه التحديد، ولكن لأن الحزبية في العالم العربي فشلت فشلاً ذريعاً في تاريخنا الحديث ضمن الدولة القطرية في ان تحل الأحزاب محل القبيلة والجهويات*
عودة المكبوت لازالت عودة لا نعرف عنها الكثير للأسف. فالربيع لازالت الأشياء تتخبط فيه بين الفوضويات والعبثيات والفساد والتحرش السياسي والسكوت، مالم نقل وبالاستبداد الهمجي السافر والمعنون بالسابق والقديم. بهذا يمكن الاستنتاج أن "المكبوت" من مفاهيم عربية أو إسلامية للحرية والعدالة والشورى لم تعد إلينا بشكل واضح لينعم بنا وننعم به، بقدر ما أمست الحالة خطوة تراجع للقيود السابقة، رافعةً شعار الإصلاح بقصد تبديل موازين القوى بالداخل، أكثر من كونه تغيراً جذرياً يتماشى مع مفاهيم العصر. وهذا يجعلنا نصل لضفاف "مكر التاريخ" في أمة لازالت ترفض دخوله.

هامش.
* د. نورالدين بكيس، القبيلة والربيع العربي، ملتقي الباحثين السياسيين العرب. 8.ديسمبر.2019.
* د. صالح السنوسي، القبيلة في ليبيا تستبيح الوطن.