Atwasat

حكاية (الطاحونة الحمراء)

محمد عقيلة العمامي الإثنين 26 أبريل 2021, 12:38 مساء
محمد عقيلة العمامي

"وحق التين والزيتوني ** لولا فزعة خويا الهوني ** ما شافت بيروت عيوني".. هذا بيت سمعته، ذات ليلة من الشاعر الراحل عبدالرحمن بونخيله، ولا أعلم إن كان جزءا من قصيدة، أم أنه بيت يتيم لمناسبة وكفى. أما الإجابة عن هذا السؤال فبالتأكيد عند الأستاذ سليمان منينه ذاكرة بنغازي، المُهتم بسيرتها، وأشعار عدد من شعرائها، ومنهم هذا الشاعر المثقف صاحب التجربة الثرية، الذي كان حينها يحدثنا عن أول رحلة له رفقة الأستاذ محمد بشير الهوني، مؤسس دار الحقيقة، والذي كانت له علاقات متينة مع مثقفي لبنان.

خطر على بالي هذا البيت الليلة البارحة، فيما كنت أعد حلقة عن فنان عالمي اسمه "هنري تولوز لوترك-

Henri de Toulouse-Lautrec "، الذي عاش حياة قصيرة لم تتجاوز 37 عاما، وتوفى في سبتمبر 1901. كان رساما نابغا، ولعله أول مصمم ومنفذ للوحات الدعائية، قبل الفنان "آندي وارهول " الذي سبق وأن تناولناه مع حلقات الفنانين العالميين.

"هنري لوتراك" من أسرة فرنسية أرستقراطية، ولعل اعتلال صحته وتشوّه جسده، وقصر قامته والعرج الواضح في مشيته، هو ما أبعده عن الحياة الناعمة، والصالات الأرستقراطية، وقاده باكراً إلى الكباريهات وانغمس في أجوائها المنحلة، فأدمن الكحول، حتى قضت عليه في النهاية. يبدو أنه اعتقد أن الكباريهات بأضوائها، وموسيقاها وعطور غوانيها، وغنجهن، ورنين ضحكاتهن الماجنة، ودلعهن، هو العسل الذي تجمع حوله الذباب، والمترفون والنبلاء والأفاقون، ورجال المال، والنجوم والخدم، واللصوص، والكُتّاب وأبناء العائلات المدللون. لقد تجمعوا في مكان واحد، تحركهم الشهوات، وتخلق لهم هذه الأماكن حياة افتراضية، يحاول صناعها أن يجعلوها تبدو أصدق من الحياة الحقيقية.

كان ذلك هو ما حببه في تلك الملاهي، وبدا له أن ذلك هو ما يتعين تصويره، وهذا ما عبر عنه في عشرات اللوحات، خصوصا لوحات كباريه «مولان روج» الذي كان في الأساس كأي كباريه مهمته الرئيسية كانت مطعما، يقدم الوجبات والمشروبات، ثم أضيفت البرامج الترفيهية من عروض كوميدية، وغناء، ورقص، وفن المسرح، لإمتاع المشاهدين أثناء تناول وجباتهم واحتساء مشروباتهم، ثم صار الليل وحده الأفضل لهذه الحياة. واشتهرت لوحة كباريه الطاحونة الحمراء.

"مولان روج Moulin Rouge" افتتح عام 1889 في منطقة "بيغال" التي تعرف بأنها "المنطقة الحمراء" في باريس. بسبب شهرتها بأضوائها الحمراء، وكثرة كباريهاتها، ثم ازدادت شهرتها بهذه الطاحونة المضيئة، التي أصبحت علامة لها من بعد أن صمم رسمها هنري لوترك"، لتصبح الشهرة عالمية، خصوصا بعد أن أصبحت حياة الليل طويلا رمزا لباريس.

عاش " لوترك " لياليه متنقلا ما بين مسارح ومواخير باريس واستاءت منه أسرته النبيلة، وما إن مات حتى أحرقوا عددا كبيرا من لوحاته، التي رأوا أنها تسئ إلى سمعته، وهي التي يعتبرها النقاد أفضل اللوحات في مرحلة ما بعد الانطباعية، مثل "فان جوخ" و"جوجان". والمثير أنه سنة 2005 بيعت لوحته المسماة La blanchisseuse"" وتعني "الغسالة الشابة" في بيت للمزادات بمبلغ 22.4 مليون دولار أمريكي! والحقيقة أن اللوحة باهرة بتفاصيلها.

سنة 1892 رسم لوحة اسمها لوحة «في المولان روج» وهي المعلقة الآن في «معهد الفن» في شيكاغو الأميركية، يزيد عرضها قليلاً عن 140 سم كما يبلغ ارتفاعها 123سم. ومنها اشتهر هذا الكباريه، الذي أصبح من أهم المسارح الراقصة في باريس، وحتى الربع الأخير من القرن الماضي ظل "المولان روج" الباريسي الشهير من أشهر المسارح الليلية في العالم، ورواده في الغالب من رجال المال، والمشاهير، ولكنه الآن لم يعد كذلك، فحياة الليل لم تعد ترتبط بمكان بعينه.

في منتصف السبعينيات، تركت العمل الحكومي، واتجهت نحو العمل الحر. ولا أذكر تماما سبب تلك الرحلة، ولكنني أعرف أنها كانت في منتصف السبعينيات، وأن صديقي الثري أصّر على أن أرافقه إلى باريس، ولا أخفي أنني لا أميل لزيارة بلد لا أعرف لغته، وأيضا ثقافته، ولكن تحت وطأة إصراره، ومغريات ما كنا نسمعه عن باريس، لم أجد سببا لرفض زيارة عاصمة النور، خصوصا وأنه أكد لي أن الشركة التي دعته سوف تنظم لنا برنامجا ترفيهيا، وأصبح من العبط والغباء ألاّ أوافق. وكانت تلك أول زيارة لي لباريس.

غايتي من حكاياتي هذه الربط بين تلك الزيارة، ومأ أعددته كحلقة منفصلة، عن هذا الفنان الفرنسي الغريب في شكله وسلوكه، وحياته. فهذا "المولان روج" التي جعلت شهرته الدول الغربية، وبعض العربية، القادرة تقلدهم، منهم من نجح في ذلك ومنهم من تفوق عليهم، ولكن الشهرة ظلت لكباريه "الطاحونة الحمراء"، الذي تسببت فيها لوحات "هنري تولوز لوترك". في لندن أقاموا كباريها مشابها أسموه "حديث المدينة -Talk Of The Town " وفي أمريكا أقاموا مدينة كاملة، ففي لاس فيجاس محل يحمل الاسم نفسه. وفي الصين شيدوا "مكاو". وغير ذلك كثير، والسبب ما أضافه الفنان "هنري ده تولوز لوترك" لتلك الحياة.

موهبة الفن، إذن، سلاح في أيدي الموهوبين، إن كان صاحبها قد سحقته الأيام وقتلت إحساسه بالفضيلة والجمال قد يوظف لغيرها، وإن كان سويا، خاليا من العقد ومعاناتها سيوظفها للخير، وفي الحالتين الجمال هو السلاح الفعال لمناحي الحياة كافة. والفن حالة إنسانية يتعين أن نعرفها ونفهمها من دون تقييم دوافعها، وإصدار أحكامنا عليها.