Atwasat

قراءة في الشر... ودموع عبدالرازق حمد

نور الدين السيد الثلثي الأربعاء 21 أبريل 2021, 09:02 صباحا
نور الدين السيد الثلثي

بين يديَّ اليوم كتاب "الإبادة في ليبيا: الشّر، تاريخ استعماري مخفيّ Genocide in Libya – Shar, A Hidden Colonial History للمؤرخ الليبي الأمريكي الأستاذ علي عبداللطيف احميدة، أستاذ العلوم السياسية بجامعة نيو إنجلند. كنت قد قرأت عن مشروع الكتاب منذ بضع سنوات، وأراه اليوم قد خرج إلى أرفف المكتبات.

لم أنتظر؛ بدأت القراءة مساءَ هذه الليلة الرمضانية بعيداً عن الوطن، تاركاً ما كان أمامي من عمل أتطلّع إلى إتمامه هذه الأيام. شدّني الكتاب بمقاربته لحملةِ إبادة أبت القوى العالمية المهيمنة أن تظهر سجلاتُها من الخزائن وأحداثُها من ذاكرة معاصريها، ولم نَـرْقَ نحن الليبيين - وهذا هو الأهم - إلى جلال التضحيات الناتجة عن حملة الإبادة تلك؛ لم نعطِها المكانة التي تستحق في تاريخنا ونعرِّفْ بها. سِجل الإبادة الجماعية في المعتقلات لا يكاد يُذكر في المناهج التعليمية منذ الاستقلال، والمعتقلاتُ نفسها منسيّةٌ تكاد معالمها تندثر. تقف أطلالها شاهداً على استشهاد ما يُقدّر بثلاثة وثمانين ألف (83,000) معتقل من بين مائة وعشر آلاف (110,000) من الرجال والنساء والأطفال الذين ساقهم المستعمر الإيطالي إليها في العقيلة والبريقة وسلوق وغيرها مشياً على الأقدام.

لم يترك المستعمِر صنفاً من صنوف التنكيل، من محاكمَ صورية وتجويع وتفشٍّ للأمراض وضرب وإذلال طال النساء، وانتظار جماعي رهيب للموت.

يسجل الكتاب ويوثّق الأحداث مستنداً إلى التاريخ الشفهي والوثائق المحفوظة والتراث المحفوظ بالذاكرة، ويظهر من الجزء الذي قرأته هذه الليلة أن مركز الدراسات الليبية كان قد قام بمجهود كبير في حفظ الوثائق التاريخية وتسجيل الشهادات الشفهية التي كانت من بين أهم مصادر الكتاب.

كانت القراءة حزينة، فصُوَرُ الظلم والموت والإذلال في هذا الكتاب تكاد تنطق، ومع ذلك كان من الصعب التوقف عن القراءة. تذكرتُ عبدالرازق حمد يروي لنا قصته في معتقل العقيلة طفلاً. كانت صورة الأحداث حاضرة أمام عينيه المغرورقتين بالدموع بعد ما يقرب من الأربعين عاماً من نجاته من المعتقل. هناك فقدَ عبدالرازق أفراد أسرته جميعاً.

استرجعت صوراً من الذاكرة يوم وقفتُ على أطلال معتقل العقيلة خلال رحلة لي بالبرّ من بنغازي إلى طرابلس سنة 2005. قرأت الفاتحة يومها ووقفت أتأمل المكان في أسى: هنا قضى الآلاف من الرجال والنساء والأطفال بين سنتي 1929 و1934. صحراء ممتدة تلامس البحر، وبقايا سور قديم وبرج مراقبة تجاوره براريك مواطني الدولة الليبية الحديثة. صمت رهيب يلف المكان، يخترقه صدى كلمات رجب بوحويش “ما بي مرض غير مرض العقيلة…” مخلِّدة تلك المأساة الإنسانية في الذاكرة الوطنية؛ أجاد خالد المطاوع ترجمتها بحِسٍّ مرهف إلى الإنجليزية في كتاب "الإبادة في ليبيا: تاريخ استعماري مخفيّ" الذي نجده بين أيدينا. واجب الثناء والتقدير موصول للأستاذ على عبداللطيف احميده، على مجهود عظيم يوثّق للعالم وللّيبيين في أجيالهم المتعاقبة جريمة إبادة كبرى وتضحيات جيل أبى الاستسلام للمستعمر والرضوخ لإرادته.
رحم الله شهداء الوطن.