Atwasat

الغطاس (كروكوريان)

محمد عقيلة العمامي الإثنين 19 أبريل 2021, 12:29 مساء
محمد عقيلة العمامي

"كروكوريان" الذي حدثتكم عنه في روايتي "الكراكوز" شخصية حقيقية كان غطاسا بارعا في صيد الإسفنج، انتظم لسنوات من شبابه، بممارسته، خلال مواسم صيده في بنغازي. كانت مراكب صيد الإسفنج اليونانية يتصادف قدومها إلى ليبيا مع موسم نضج التمور، ومن بعد أن تقاعد كنت كلما ذهبت إلى اليونان يكون له نصيب من تمور ليبيا التي يعشقها. قال لي ذات مره: "لو أن المركب التي ذهبت بزوجين من الخيل من برقة، أول مرة، إلى قبرص جاءت إلينا بنخلة من نخيلكم، لأنقذتني من إذلالك لي مقابل هذه العلب الصغيرة، وأنت تعلم أنني أعرف، أن لديكم علبا أكبر من هذه العلبة.. ولكن "فرّق بينك وبين (القرقضه) "هكذا قالها! (كروكوريان) الذي كان يتحدث العربية بلهجتنا، فهو من مواليد سوسه، جاءت أسرته من كريت في العهد التركي، ولكنها لم تستقر في ليبيا.

كروكوريان، مثلما قلتُ في روايتي، مثقف جدا وقارئ جيد، ولكنه أصيب بداء البحر ولوثة الغطس، فامتهنه. عندما حدثني عن هؤلاء البحارة المغامرين، الذين نقلوا الحصان إلى قبرص، استغربت وسألته كيف تم ذلك؟ ولماذا من برقة تحديدا. قال: "كان ذلك أيام الحضارة المينوية التي تسمت باسم مؤسسها الإمبراطور مينوس، وتعد أقدم حضارات وأوروبا، وتعود إلى العصر البرونزي. موطن الحضارة كان في جزيرة كريت وباقي الجزر (الإيجية)، ومثلما تعلم أن قبرص جزيرة يونانية وليست تركية، وجاءوا بالحصان من برقة لأنها الأقرب لجزيرة كريت".

جزيرة كريت، تعرف في ليبيا باسم (خانيا) فهناك غناوة علم شهيرة تقول: "يفرغ زبيب ولوز حلوانك اللي ما (خانيا)" وللغناوة قصة لا أذكر تفاصيلها، ولكن بالتأكيد يعرفها جهابذة العلم.

ولقد تذكرت بالفعل، أحداثا مشابهة كانت معروفه في شواطئ بنغازي حتى منتصف القرن الماضي، فلقد كان بحارة معروفون من منطقة الكيش تحديدا، ومنهم أقارب من قبيلتي، كانوا ينطلقون بالبقر إلى مالطا بزاد ليس أكثر من تمر وخبز جاف وماء، ويعودون من هناك بالماعز المالطي، الشهير عندنا بإدرار الحليب.

أنا في الواقع، كنت أنوي أن أحدثكم عن طرائف سمعتها من (كروكوريان)، خطرت على البالي وأنا بين صحوي ومنامي، وقررت أن أحكيها لكم، هكذا هي حكايات البحر، فالواقع أن نسمة صيفية هبت هذا الفجر، فخطرت على بالي تلك الأصباح الصفية، عندما نعود من رحلة صيد ليلية محملين بالأسماك الملونة الجميلة. وخطر على بالي الرفاق، وخطر على بالي صديقي "عوض" رجل الأعمال الذي أصيب بداء البحر فأسره، وأنني حذرته من شهر مارس المرعب بأجوائه المتقلبة، وسألته ألاّ يغامر برحلة صيد خلاله، وأخبرته أن الصيادين القدامى يسمونه شهر "لمباركات" ويقصدون بها الرياح، تقربا وتزلفا منها لأنها تهب فجأة من الاتجاهات كافة، ويرجعون ذلك لأسباب غيبية ولكن الواقع العلمي يؤكد أن ذلك يحدث بسبب تقارب كواكب ونجوم معروفة من الأرض. فتسبب في الرياح المباغتة التي تكون خطيرة للغاية.

كانت غايتي أن أحدثكم عما سمعت من كروكوريان، الذى أكد أن الغوص لصيد الإسفنج مهنة يزاولها اليونانيون منذ أيام المسيح، وكان القديس نيقولاس يتولى حمايتهم بصورة شخصية، لأنه يرى فيهم حالة أسطورية، فهذا الغطاس الذي يشعل لفافة تبغه بمجرد أن يخرج من الماء، لا يقوم بذلك بسبب إدمانه للتدخين وإنما ليتأكد أنه لم يصب بداء الغطس اللعين! فإن تغير طعم ما استشفه من التبغ يعني انه أصيب بداء الغطس وسريعا ما سيقعده الكساح! ويظل كذلك لا يستطيع تحريك أي طرف من أطرافه سوى جفونه ولسانه، ولكن ما إن يقوم رفاقه بإلباسه قيافة الغطس ويدلوه في الماء حتى يتحرك كأي غطاس طبيعي! وذلك بسبب ضغط الماء وتسرب فقاعات هواء إلى أنسجة الجسم سببها الخروج السريع من مستوى ضغط إلى أقل منه.

إن جمال القيعان، عندما يكون الماء صافيا، من دون تيارات تثير رماله، يأخذ الغطاس، فيشعر وكأنه يسير في حديقة ساحرة بألوان نباتاتها، وزهورها، وجمال ورودها، حديقة غناء بألوان قوس قزح، وإسراب الأسماك الملونة، تتحرك وكأنها ترقص كفرقة باليه رائعة الألوان والرشاقة، كل ذلك يخلب الألباب ويصبح الاستمتاع بها غاية تصل حد الإدمان! كل ذلك ينسيهم خطورة الضغط وعدم الانتباه إلى الفترة الآمنة للبقاء في هذه القيعان.

ثم إن فرص الثراء واردة، والحلم به وارد كلما دل الرفاق الغطاس في الماء، فثمة كنوز كثيرة ابتلعها البحر، منذ أن عرف الإنسان كيف يطفو فوق سطح الماء، سفن تجارية محملة بمواد غذائية، ومجوهرات وذهب، ونقود غرقن ولم يتوقف حتى الآن العثور بين حين وآخر على حطام سفينة محملة بكل ما يخطر، ومالا يخطر على البال، ناهيك عن هياكل عظمية جردتها الأسماك وديدان البحر وتركتها في أقبيه هذه السفن.

حدثني "كروكريان" ذات مرة عن "كوستا"، ذلك الغطاس الذي كان يعتبره رفاقه سيء الحظ، لأنه لم يوفق أبدا في أي موسم من مواسم صيد الإسفنج بنصيب، يمكنه من تحسين كوخه، ويغني والدته عن الخدمة في بيوت القادرين، وكان كلما فكر في تغيير مهنته، تنصحه أمه بعدم التوقف، والاستسلام لما يراه سوء حظ. وذات مرة، شاهد وميضا بذراع أخطبوط، فلحق به، فيما اندفع الأخطبوط في حفرته، ولما ذعر الأخطبوط وغادرها، وجد "كوستا" أكثر من ألف قطعة من نقود ذهبية يونانية قديمة، جعلته من أثرياء قريته! وأصبحت أمه من سيدات القرية الثريات!