Atwasat

أضواء على الصوفية

رافد علي الأحد 18 أبريل 2021, 10:17 صباحا
رافد علي

من ضمن التيارات الدينية المنتشرة في عالمنا الإسلامي التيار الصوفي، الذي يعتبر من الطرق المهتمة بالروحانيات. ليست هناك بداية تاريخية محددة لدخول الصوفية لديار الإسلام، إلا أن من المتفق عليه أن المسلمين قد تفاعلوا مع الصوفية بعد عهد الفتوحات الإسلامية لما وراء العراق. ويتفق المؤرخون على أن الصوفية في بداياتها كانت طريقة للزهد وفق الكتاب والسنة، وذاع صيت المحاسبي لطريقته الصارمة في الزهد ومحاسبة النفس لأجل عزوفها عن السوء. ولقد كان مع انطلاق عصر التدوين أن توسع انتشار الصوفية بالعالم الإسلامي وشُرع في تأطيرها وتأسيس مبادئها على اختلاف التوجهات فيها.

من الانتقادات التي توجه للصوفية كتوجه فكري أو كطريقة دينية، أنها ترتكز على العرفان أو الخرافة، وتتخلى عن البرهان في منظومتها مما "يبعدها عن روح المنطق". للجابري باع في نقاش هذه الفكرة مع أنصار المدرسة الصوفية.

ويرى أدونيس أن الصوفية كالمذهب السوريالي، رغم حالة الإلحاد في الأخيرة، وشيوع فكرة التدين في الصوفية وتوجهها نحو الخلاص الديني، فليس هناك من تضاد في العمق المعرفي الذي يتجاوز الظاهر في الأمر بينهما. ويقول أدونيس في الصوفية والسوريالية إن الإلحاد ليس بالضرورة أنه ينكر التصوف، كما ليس بالضرورة أن الصوفية حالة تتضمن الإيمان التقليدي بالدين، لما للغة الصوفية من خصوصية شديدة، فالشعرية في لغة الصوفية بكل تجلياتها والرمزية فيها، والتهابها وانخمادها، تظل تناقض اللغة الدينية أو الشرعية التي تقول الأشياء كما هي، بشكل كامل ونهائي.

بينما لغة الصوفية لا تقول إلا صورًا منها، ذلك أنها تجليات المطلق- تجليات لما لا يقال، ولا يوصف، ولما تتعذر الإحاطة به، فأهمية الصوفية تكمن في النهج الذي اتبعته لخلق مدونتها اللغوية والمعرفية بما يفتح فضاء آخر، وهذا وجه التشابه بين السوريالية

والصوفية، رغم أن أراغون لا يقدم السوريالية كعقيدة.

المهتمون بالصوفية من أكاديميين وبحاث تطرقوا جميعاً لأصل تسمية التيار الصوفي بهذه التسمية. فمن الناحية اللغوية رُدت المفردة "التصوف" إلي الكلمة "الصوف" كون أتباع هذا التيار الديني يرتدون ثياباً تصنع من الصوف، كما ُيجمع كل من الطوسي والسهروردي وابن خلدون. ويرى فريق آخر أن أصل كلمة صوفية جاءت اشتقاقًا من الكلمة اليونانية Theosphie إله الحكمة.

ترتكز الصوفية كنزعة دينية على ركيزتين أساسيتين؛ هما التحلية: وهي أن يتحلى المتصوف بكل وصف كريم. والثانية هي التخلية، أي أن تتخلى الروح عن كل وصف ذميم. والصوفية في عموم الأمر كمفهوم هي الطريق إلى الله، حسب أتباعها وأنصارها، إذ يتحلون بمجموعة من الآداب والأخلاق والمبادئ، كلٌ حسب طريقته ومنهاجه. فالمريد، وهو تابع شيخ الطريقة، عليه أن يجتاز مراحل التصوف بتسلسل مبرمج لترسيخ الثوابت الأساسية الفكرية والعقائدية، وكذلك السياسية كون أن التيار الصوفي عموماً بالعالم العربي منذ عصر التدوين لم يكن بعيداً عن تجاذبات السياسية وصراعاتها، سواء في المشرق أو بالمغرب أو في الأندلس، فالحلاج في المشرق تمت تصفيته سياسياً من قبل الخليفة لاتساع أتباعه، ولنفوذ تجلياته الصوفية التي جلبت عليه تهمة الزندقة بغرض تقويضه والتخلص من "نزعته العرفانية".

في المغرب العربي عموماً، كان كتاب إحياء علوم الدين، لحجة الإسلام الشيخ الغزالي؛ مكانة بارزة في شئون السياسة. فانتقاد الغزالي لفقهاء السلطان بعصره بأنهم في سوء السبيل، انطبقت على الوضعية في بلاد المغرب، فدولة المرابطين حينها عززت مكانتها وسلطانها عن طريق فقهاء بلاطها من المذهب المالكي، وتثبت العديد من الشواهد التاريخية أن "يوسف بن تاشفين كان لا يقضي أمرًا إلا بحضور أربعة فقهاء"، مما أغناهم بشكل لافت، وباتوا يظهرون كأصحاب سلطان ونفوذ، فكانت إحدى نقاط النزاع بين الفقهاء وأهل التصوف حينها. فكتاب إحياء علوم الدين يؤطر لنزعة الصوفية في الزهد والتوجه إلى الله.

فكان رفع المتصوفة شعار الزهد والتقشف في وجه فقهاء البلاط كنوع من "المقاومة السلبية"، كما نقول حديثًا، إلى جانب نقاط خلافية أخرى بين الفقهاء والصوفية تتعلق بالمنهج الفكري والنهج العقائدي، من أبرزها قضية تأويل النصوص، ففقهاء المرابطين كانوا من ذوي التوجه المحافظ جدًا. ما اضطر السلطة إلى إصدار قرار بحرق كتاب إحياء علوم الدين على الملأ. ألفرد بل في مؤلفه "الفرق الإسلامية" يشير إلى هذه الخصومات الممزوجة بما هو ديني، مع ما هو سياسي في عهد المرابطين بأنها كانت من نتاج حالة "الاختمار الديني" لفقهاء البلاط الذين أصابتهم التخمة والترف. الصراعية بين السلفي والصوفي ما زالت بادية في ثقافتنا المعاصرة

فالصوفية بحكم نظامها التراتبي بين الشيخ- الذي يأتي بعد الله والرسول- والمريد، وهو التابع، الذي تربطه بشيخه وثيقة "العهد" بالسمع والطاعة، تجعل من الصوفية مرشحة لأن تكون تنظيمًا موازيًّا، أو مشروع تنظيم مناهض للقائم رسمياً، يمتلك القدرة على ممارسة خطاب ديني ليس مغايرا وحسب، ولكنه يملك الجراءة على التأويل وبلغة مختلفة أيضاً. من هنا جاء التوجس النفسي، والحذر السياسي من الصوفية بشكل أساسي باعتقادي المتواضع.

الشيخ ابن تيمية تسجل له كتبه ورسائله موقفه المتشدد كأصولي تجاه الصوفية بكل فرقها، إلا أنه في علامة فارقة بنهجه لم يكفر الشيخ أبو حامد الغزالي، كما يرى علي بن عبدالعزيز بن علي الشبل في دراسته المنشورة على الإنترنت. في حين أن ذات الشيخ يكفر، ويصب جام غضبه على الشيخ ابن عربي في قدر كبير من أعماله الغزيرة، التي تزكيه كمنظر للتيار السلفي.

إلا أن هناك من المعاصرين من يرد على ابن تيمية تكفيره للشيخ ابن عربي. فالصوفي المعاصر محمود محمود الغراب يحاور فتاوى ابن تيمة حول شيخ الصوفية ابن عربي، في كتابه شرح كلمات الصوفية والرد علي ابن تيمية.

يقول الغراب في مقدمة كتابه: "ولما كان بعض هؤلاء المنكرين، ممن حاز الصدارة في علوم الفقه والدين، فظن البعض أنهم وصلوا مرتبة حق اليقين، فاتبعهم أقوام في إنكارهم مقلدين، في كل ما هم له أهل، وفي كل ما ليسوا له بأهل، فلا المتبوع أنصف نفسه عندما تكلم فيما لا يعلم، ولا التابع حقق النظر في قول من اتبعه فسلم وسلّم، لذلك رأيت أن أجمع شرح بعض كلمات الصوفية، مما لا تدركه العقول القاصرة عن المراتب العالية، فطعنت فيها ببادي الرأي، ولو سألت بها خبيراً، لحل معضلها وشرح مشكلها فأصبح بها بصيراً، ولوقفت علي أن ما تراه كفراً وإلحاداً، إنما هو من لُباب التوحيد..." والكتاب تَتبع فيه المؤلف كل ما جاء في مؤلفات ابن تيمية وما ذكره الشيخ ابن عربي وتحديدًا في كتابه الشهير الفتوحات المكية.

ومهما يكن من الخصومة بين السلف والتصوف يبقى الحب الإنساني هو الأفق البعيد الذي يجب أن نسعى نحوه بلا أحقاد وبصدر رحب. "إن الأبجدية، بوصفها (رسمًا لا يحيل إلى "واقع" بل إلى "الغيب")؛ ما يتيح ابتكار مجال يتطابق فيه التجريد الإلهي مع التجريد التعبيري بالكلام، وتتطابق الإشارة اللغوية مع الإشارة الإلهية.

ذلك أن الله كلمة لا صورة. ولا يدرك الله بالصورة، لأنها تقدم إدراكاً بصرياً خادعاً، وإنما يدرك بالكلمة (العقلية أو القلبية) التي هي تجريدية."* * أدونيس، الصوفية والسوريالية. دار الساقي. الطبعة الثالثة. ص 196.