Atwasat

النيل والحقيقة الناقصة

محمد عقيلة العمامي الإثنين 12 أبريل 2021, 10:38 صباحا
محمد عقيلة العمامي

في تقديري أن مصر - وحدها - "هبة النيل" حقيقة ليست كاملة، فلا أعتقد أنه ثمة حاجة للتذكير بأهمية دور مصر في أفريقيا والعالم العربي، الذي، على نحو ما، هو أيضا هبة النيل. ولو تدبرنا في الوجهة التي اتخذتها الهجرات العربية، والأخرى المغاربية، لتأكد لنا أنها كانت بسبب النيل، أو البحر العذب، مثلما كان يسميه الليبيون، الذين يشكلون حوالي 15 مليون من مصريين تعود أصولهم إلى ليبيا. ولو فكرنا، أيضا، في الوجهات التي اختارها النازحون من الربيع وأيضاً الشتاء العربي، لتأكد لنا أنهم أيضاً "هبة النيل" وهم على بعد آلاف الكيلومترات من هذا النهر الخالد. فهل نعرف جمعيا حكاية هذا النهر العظيم؟

حسناً، فلنتبع قطرة ماء تنحدر من ارتفاع حوالي ألفي متر نحو بحيرة "تنجانيقا"، وهي الأكبر في أفريقيا، وثاني أقدم وأكبر بحيرة للمياه العذبة في العالم، وأيضاً ثاني أعمق بحيرة في جميع الحالات بعد بحيرة "بايكال" في سيبيريا. وهي أطول بحيرة للمياه العذبة في العالم، ومنها ينطلق النيل الأزرق. وتنتهي رحلة هذه "القطرة" في البحر الأبيض المتوسط بعد رحلة طولها 6680 كيلومتراً على شط بحر دمياط؛ حيث يكثر في موسمه نوع من السردين يسميه الدمياطيون "السهيلية" التي تتجمع حول مصب نهر النيل باعتبار أن المياه هي الأقل ملوحة في البحر الأبيض المتوسط، فتهاجر سنوياً إليه لتضع بيضها!

هذه القطرة يعتمد عليها في مصر وحدها أكثر من 110 ملايين غير الزوار والمقيمين والنازحين والمهاجرين والمُهجرين، وهم جزء من حوالي خمسمائة مليون إنسان متوزعين ما بين إثيوبيا والسودان ومصر.
نهر النيل في مصر ورد ذكره منذ 7000 سنة في التاريخ الفرعوني، وكانوا يتقربون إليه بإهدائه عروساً عذراء جميلة، وما زالوا حتى الآن يهدونه دمية تعرف باسم عروس النيل، عندما يتأخر ارتفاع منسوبه لسبب ما، وبسبب أهمية هذا المنسوب يسجله المصريون بانتظام منذ سنة 641 ميلادية.

ونهر النيل يتكون من نهرين الأبيض والأزرق. النيل الأبيض، يتجمع في بحيرة فيكتوريا، ويندفع نحو السهول المنبسطة، نحو السودان فيما ينحدر النيل الأزرق من ارتفاع 2750 متراً نحو بحيرة "تانا" في الحبشة، ولا أحد يعرف منسوب فيضانه، باعتبار أنه سر إثيوبي! ويلتحم النهران في السودان وتتواصل رحلتهما نحو مصر، ومن شمال الخرطوم يلتحم بهما نهر عطبرة، الذي ينبع من إثيوبيا مستوفياً حوالي سدس مياه النيل. ويواصل النهر رحلته، وفي القاهرة ليلة 17 يونيو يُقام احتفال ببداية زيادة منسوب ماء النهر.

في 15 مايو 1902 وقعت بريطانيا، التي كانت تحتل مصر معاهدة مع إثيوبيا، فرضت عليها بألا تقيم أي موانع تحول بين تدفق النيل الأزرق وروافده إلا بموافقتها! ووقعت أيضاً اتفاقية أخرى مع السودان بألا تقام أي حواجز لمياه النيل إلا بموافقة مصر، ونظمت هذه الاتفاقية توزيع ماء النيل بينهما وفق جداول فنية محددة، وبعد استقلال السودان، سنة 1956، وهو الأمر الذي وقفتْ فيه مصر، كعادتها، مع السودان، وباركته، مرحبة باستقلاله. ولما أعلن السودان أنه لم يستشر في اتفاقية توزيع مياه النيل التي عقدت سنة 1929، ويتعين تعديلها، وافقت مصر وأصبح نصيبه خمسة أضعاف ما كان يحصل عليه قبل الاستقلال؛ كان ذلك عندما كان تعداد مصر حينها 17 مليونا، والآن يصل تعداد مصر حوالي 110 ملون، وما تزال حصة مصر كما هي، والأدهى أنها قد تنقص جراء هذا السد! ناهيك أن مصر، وبناء على اتفاقية بينها وبين السودان؛ بسبب تداعيات السد العالي، عوضت من تضرر من السودانيين جراء تشييده بقيمة قدرها خمسة عشر مليوناً من الجنيهات المصرية، وتأسس مجلس مشترك بين الدولتين يشرف على هذه الاتفاقية.

قد يكون ما ذكرناه تلخيصا مكثفا لهذا النهر الخالد، وما كان أحد يهتم بهذه التفاصيل القديمة التي تنظم "الحياة" لملايين البشر متجاورين منذ آلاف السنين، فلا أحد مهما بلغ طغيانه يحرم أخاه الإنسان إكسير الحياة بالمعنى الشامل لما تعنية كلمة "الحياة".
منذ آلاف السنين وطمي النيل يغمر ضفافه، وهي دعامة خصوبة أرض النيل، فمصر بلد جاف، يعتمد على النيل في الحصول على كل قطرة ماء عذب للإنسان والحيوان والنبات. وعلى ضفاف النيل بشريط طوله حوالي 1000 كيلومتر وعرضه حوالي 1500 متر، في هذا الشريط يعيش أكثر من 110 ملايين إنسان، وملايين أخرى من الكائنات الحية تحتاج إلى الماء مثل حاجة أي كائن إليه في هذا الكون. ولا أحد بمقدوره أن يتكهن ماذا سيحدث لمن يحول بين الماء وبين هذه الكائنات، فما بالك بالإنسان، خصوصاً أن هذا الإنسان سليل أقدم حضارة في التاريخ.

هذه الأيام يعلو صوت تعنت، بصورة واضحة، ولا يخفى على أحد أنه ليس صوتاً يريد أمن واستقرار المنطقة، وإنما صوت دوافع، للأسف الشديد، تغيير التاريخ، وطمسه وخلق فوضى في منطقة أصبحت محل أطماع، أكثرها خطورة تغيير ديمغرافية مكان تسعى إليها فئة ترى أن الآية الكريمة التي تنص: "فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَىٰ يُوسُفَ آوَىٰ إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ"، برؤية غير التي أنزلت من أجلها.
ومصر هي النيل، الذي يعد أحد أنهار جنة عدن الأربعة التي ذُكرت في التوراة. وعلى ذلك أكاد أجزم بأن مشكلة سد النهضة، ليست مشكلة مصرية فقط، وإنما مشكلة عالمية، لا تختلف كثيراً عن المشاكل التي تسببت في قيام الحروب العالمية! ومع ذلك كله تظل أثيوبيا متجاهلة هذه الحقوق التي تقرها القوانين الدولية.

ألاّ تتفقون معي أن مشكلة سد النهضة، وتعالي أثيوبيا، وتجاهلها لطلبات مصر والسودان ليست مشكلة هذين القطرين المسلمين العربيين فقط، وإنما مشكلة العالم العربي كله بمختلف دياناته، وأيضا قناعاته وتوجهاته.