Atwasat

ذاكرة مكان..

صالح الحاراتي الأحد 11 أبريل 2021, 11:59 صباحا
صالح الحاراتي

البسطاء هم أولئك الذين يعيشون باكتفاء وقناعة، ورضى كبير، رضى داخلي وصفاء رغم أنهم فى قاع المجتمع اقتصاديا.

هم خليط عجيب وسلوكهم يتراوح بين خفة ظل وتلقائية كلامهم المحبب وأحيانا سبابهم الجارح وغير العنيف.. منهم المتخلف عقلياً بشكل جزئي ومنهم من لا نسب له، وكما يُقال (المقطوع من شجرة) ومنهم الدراويش أو من يعتقد الناس أنهم من أولياء الله الصالحين .
والدراويش هم زهاد بعض الطرق الصوفية شديدي الفقر والمتقشفين عن اقتناع وإيمان.. وهم يعيشون على إحسان الآخرين زهداً في متاع الدنيا.. ويقال إن الدروشة في الصوفية هي أولى درجات الترقي في التطور الروحي، والدراويش الصوفيون هم زهاد دربوا أنفسهم على البساطة والتواضع والابتعاد عن التملك المادي.

الشاهد أنه لا تخلو مدينة من أشخاص مميزين يعيشون على هامش الحياة، قاع المجتمع. منهم أناس طبيعيون لكن لهم سمتاً مميزاً وتصرفات معينة ويطلق علي أحدهم لقب (مرابط او درويش) وأحياناً قد يتحدثون مع أنفسهم أو مع كائنات غيبية لا يراها أحد غيرهم! ربما يعانون حالة نفسية مرضية، لكن لا أحد يعرف حقيقتهم على وجه الدقة.

والشاهد وما أريد الإشارة إليه هو (القبول الشعبي) للمبالغة فى نسبة أحداث وخوارق معينة حدثت لهم؛ وهو مسلك يكاد يكون شائعاً.. ومثال على ذلك أن الناس فى مدينتى كانوا يصدقون يوماً ما، رواية تقول إن أحد أولئك الدراويش شاهدوه فى الحج وهو فى نفس الوقت ما زال موجوداً فى المدينة التى يعيش بها، وما إلى ذلك من المبالغات الخرافية.

كنت أعرف أحدهم ينادونه بالشيخ "أبوبكر" ذلك الإنسان الذى يشار إليه أحياناً بلفظ "المرابط"، والمرابط عندنا هو اسم يطلق على الشخص الزاهد في الدنيا، أي المتصوف وقد يعني أيضاً الولي الصالح؛ كما يطلق هذا الاسم على أى ضريح تعلوه قبة ويزوره الناس للتبرك، كما يسمى المرابط أيضاً نسبة إلى المرابطة أي ملازمة المكان، وهي تسمية تستعمل في بلدان شمال أفريقيا.

شاهدت يوماً، وأنا ذاهب للمدرسة المرابط "أبوبكر"، وهو نائم فى شباك المدرسة الإيطالية وهو شباك كبيرحافته السفلية بها قاعدة رخامية تكوم فوقها بكل طمأنينة.. فأصحاب المدرسة لديهم علم بطبيعة هذا الإنسان ورؤية الناس له المفعمة بالاحترام وربما بالتقديس باعتباره رجلاً مباركاً و"بركة"، ولذلك لم يشتكه أهل المدرسة ولم يعترضوا على نومه فى شباكهم.

سمعت عدة روايات عن المكان الذى أتى منه للمدينة، لكن لا أحد يعرف على وجه اليقين من أين جاء وكيف يدبر حاجاته الضرورية من مأكل ومشرب.

بعد عدة سنوات ترك "أبوبكر" شباك المدرسة وبدأ مشروعه العظيم وهو بناء مسكن عبارة عن دار واحدة محاذية لطريق معبد يؤدي الى المدرسة المركزية بالمدينة وأيضاً بجوار حائط مرتفع هو سور معسكر للجيش أو الحامية كما تسمى عند الناس.. وكان ذلك المشروع حديث المدينة نظراً لأن أبوبكر يقوم بالتنفيذ بنفسه.

كلما مررت مع زملائي فى طريقنا للمدرسة نشاهد المرابط وقد أحضر شيئاً من الرمال من منطقة ساحل البحر وأحضر "حجر الصوان" من الجبل المحاذي للمدينة.. وتلك مسافات ليست قصيرة، لكن هذا ما يتحدث به الناس ورأوه بأعينهم.. كان المرابط يذهب إلى محلات تجارية بعينها ويطلب من أصحابها إيجار تلك المحلات باعتبارها ملكا له فيستجيبون لطلبه وأحياناً كان لا يطلب الأجرة نقداً.. لكنه يطلب اسمنتا أو أية أداة تستعمل فى البناء.. وقد رفض بشكل قاطع كل العروض التي قدمها له أهل الخير المقتدرين لمساعدته فى بناء تلك الدار.
بعد شهور بدأت تظهر حوائط دار أبوبكر وكانت سميكة جداً يقترب عرض الحائط من المتر، وكأنه يبنى مصدات لهجوم حربى مباغت..

استمر "أبوبكر" فى البناء فترة طويلة.. واستطاع بنفسه أن ينجز مشروعه ورأيناه وقد أقام وسكن فى داره.. واستمر الحديث عن كراماته، وتنبؤاته كثيرة، ولم يفقد احترامه وتقديره أبداً.

بعد مضي زمن تغير مكان المدرسة وانتقلنا إلى مقر المدرسة الجديد، ولم أتابع باقي مشوار أبوبكر مع الحياة.. لكنى سمعت لاحقاً أن صاحب مخبز شهير كان على علاقة ودية بالمرابط ويزوره كثيراً قد وجده وقد أخذ منه المرض فنقله إلى المستشفى؛ حيث فارق الحياة، لكنه لم يفارق الذاكرة الجمعية للمدينة التى ما زالت تعتقد حتى الآن أن (أبوبكر رجل مبارك) فقد ذكر لى صديق أنه عندما كان يحضر حجر الصوان من الجبل لبناء داره كان يقول (هنا سيكون الماء) ومضت الأيام، وكان ذلك المكان الذى أشار إليه أبوبكر وربطه بالماء هو نفس مسار النهر الصناعي!