Atwasat

الكفاءات في السياق الليبي

رضا احمد الطبولي الأحد 11 أبريل 2021, 11:57 صباحا
رضا احمد الطبولي

ليست هي المرة الأولى فى ليبيا وخلال عقد من الزمن، التى يكثر فيها استخدام مصطلحات ”كفاءة/أو عندنا كفاءات“. ولكن هذه المرة ظهرت موجة جديدة من الكلام عن الكفاءة والكفاءات في أواخر 2020 خلال اجتماعات البرلمان ومجلس الدولة، فى منتجع أبوزنيقة بالمغرب، وذلك عند الحديث عن وضع معايير المناصب السيادية السبعة في البلاد وآليات التعيين. وتزايد الكلام عن الكفاءة منذ بداية الحوار السياسى في نوفمبر 2020 خاصة عند حلول مرحلة الترشح للمجلس الرئاسي ورئاسة الحكومة، وأصبحت مصطلحات ”كفاءة/أو عندنا كفاءات“ وكأنها ”ترند“ عند تشكيل الوزارة. وتزامناً مع كل هذه الأحداث، قرأنا مصطلحات ”كفاءة وعندنا كفاءات“ في العديد من المناشير على مواقع التواصل الاجتماعى، وسمعناها في معظم اللقاءات التليفزيونية التي أجرتها مختلف القنوات مع المحللين السياسيين، وأعضاء البرلمان والمجلس الأعلى للدولة.. إلخ. وكذلك تداولها الكثيرون في الشارع الليبي. كل منهم كان له أسبابه لاستخدامها أو للمطالبة بها! منهم من ردد هذه المصطلحات للدفاع عن فكرة تشكيل مجلس رئاسي وحكومة بما يتماشى مع مبدأ المحاصصة، فمثلاً قيل: ”عندنا كفاءات في كل ربوع ليبيا“، ولذلك لا ضير من تشكيل حكومة موسعة لتمثل جميع مناطق ليبيا، وآخرون ذهبوا للاتجاه المعاكس، وطالبوا رئيس حكومة الوحدة الوطنية بتشكيل حكومة مصغرة ”حكومة كفاءات وتكنوقراط“، أما غالبية الشعب الليبي فهو من تمنى أن - يلعب الزهر هذه المرة - ويأتيهم بمن يمتلك صفة ”الكفاءة الحقيقية“ مع قليل من الوطنية فربما ينقذهم ذلك من حقبة اللا حياة التي نعيشها الآن!

هذا الزخم يثير العديد من التساؤلات: يا ترى عن أي كفاءة يتحدث الجميع.. وما تعريف الكفاءة في السياق الليبي؟

في الحقيقة ليست هناك مشكلة في الوصول لتعريف كلمة كفاءة حسب المعايير الدولية؛ لأنه بكل بساطة من السهل التعرف على هذا المصطلح بمجرد استخدام محرك البحث جوجل! وعندها يمكن الحصول على معلومات وافية لتعريف الكفاءة كمصطلح لغوي ومن منظورعلم الإدارة ومجال تطبيق الأنظمة وتحقيق الأهداف، وحتى خصوصيتها فى مختلف المجالات.. إلخ.

لكن ربما المشكلة الأساسية تكمن في غياب مقياس للكفاءة من خلال السياق الليبي! لأنه بالرغم من أن الكفاءة موضوع أولاه الباحثون حول العالم أهمية بالغة في ما يتعلق بكيفية الاستفادة من الموارد البشرية التي تمثل حجر أساس تعتمد عليه المؤسسات لتحقيق أهدافها، فإننا في ليبيا نفتقد مثل هذا النوع من الدراسات، بل هناك شح في مجال البحث والدراسة في العموم لدرجة أنه يمكن وصف المجتمع الليبي بأنه مجتمع خال من التوثيق.

ولو تغاضينا عن هذا القصور المتمثل في غياب الأدوات أو تجاهلها والتي يمكن من خلالها رسم معالم مفهوم الكفاءة في السياق الليبي، وحاولنا الاجتهاد للتعرف على هذا المفهوم في ليبيا بالنظر للسلوك السائد في البلد، وذلك باتخاذ التجربة الليبية الأخيرة كعينة للقياس عليها، سيتضح لنا عند مراجعة الأحداث الماضية القريبة أن الكفاءة علي الأغلب تقاس بطول المدة التى يقضيها الفرد في أي إدارة أو مؤسسة، وربما أيضاً قد يمنح هذا الفرد لقب الكفاءة بمجرد حصوله على شهادات علمية في مجال ما. أي باختصار أصبحت الكفاءة فى القاموس الليبي مصطلحا مرتبطا بعدد السنوات التي قضاها الموظف فى الدولة، حتى وإن كان هذا الموظف على رأس جهاز أو مؤسسة تعاني من الفشل لسنوات لدرجة أنها تقارب الانهيار، سواء كانت هذه المؤسسة تشريعية أم تنفيذية.

وبكل تأكيد لا اعتراض على اعتبار أن قضاء مدة طويلة من الزمن في قطاع ما وامتلاك الشهادات العلمية هو من المعايير المهمة لقياس الكفاءة، لكن من الضروري أيضاً إدراك أن اكتمال صفة الكفاءة تكون بوجود إنجازات فعلية على الأرض وآثار إيجابية لعمل ذلك الفرد خلال فترة وجوده فى ذلك المكان، أو حتى في موقع آخر شريطة امتلاكه الصفات المطلوبة لتولي منصب معين. ولو أردنا ربط ما طرح هنا بتجارب الدول الأخرى سنجد أن تعيين محافظ بنك كندا المركزي مارك كارني محافظاً لبنك إنجلترا المركزي في 2013، هو خير مثال على أن الدول الحريصة على مصلحتها، في العادة تختار الأصلح للمناصب السيادية لضمان حسن إدارتها وحلحلة الأزمات دون النظر إلي المدينة أو المنطقة. بالتأكيد لم تكن عملية اختيار مارك كارني عشوائية. عندما قدم وزير الخزانة جورج أزبون بياناً بالخصوص أمام مجلس العموم البريطاني أوضح أن مارك كارني تمكن من تخفيف وقع الأزمة الاقتصادية العالمية على كندا أفضل مما فعله أي اقتصاد غربي آخر من خلال موقعه محافظاً للبنك المركزي. وهناك أيضاً العديد من الأمثلة حول العالم التى تبين كيف أن الدول في المناصب ”غير السياسية والفنية“ تبحت عن الكفاءة من أي مكان، فالجامعات العريقة والشركات العملاقة حول العالم تختار قياداتها عن طريق دعوة مفتوحة عابرة حتى للحدود للتقدم بالمنافسة لشغل منصب ما.

التجربة الحالية قدمت شواهد تتناقض مع واقع الحال مما يصعب الإجابة عن السؤال: هل بالفعل لدينا كفاءات في ليبيا؟
في المؤتمر الصحفي الذى عقد يوم 25 فبراير 2021، قال السيد رئيس حكومة الوحدة الوطنية ”تقدم لنا أكثر من 3000 سي في (CV)، في هذه المرحلة حاولنا أن نبحث في هذه 3000، وفقنا في أن نتطلع علي 2300 سي في (CV) في هذه…..“.


ولو أخذنا بعين الاعتبار أن حكومة الوحدة الوطنية هي حكومة قصيرة الأجل وستعمل في زمن بالغ الحساسية، وأن حجم التعداد السكاني في ليبيا صغير جداً، فإن تقدم هذا العدد الكبير لشغل منصب وزير ما لإحدى الوزارات أو حتى وكيل في هذه الحكومة يمكن تفسيره بأكثر من طريقة: فمثلاً إما أنه هناك الكثير من الليبين لديهم الكفاءة والقدرة على قيادة الوزرات، أو أن غالبية المتقدمين بسيرهم الذاتية لا يدركون حجم المسؤولية التي تتطلبها هذه المناصب القيادية وخاصة في هذه الظروف الاستثنائية. وبين هذا وذاك وصفهم السيد رئيس حكومة الوحدة الوطنية في مؤتمره الصحفي بقوله: ”… كثير من الناس يتطلعون“.

وليس عيباً أن يكون هناك كثير من الناس ”يتطلعون“ حسب وصف السيد رئيس الحكومة، وأن يكون لديهم طموح سياسي أو رغبة في تولي مناصب عليا كوزراء مثلاً! لكن هذا العدد الكبير من المتقدمين بسيرهم الذاتية لو اعتبرناه انعكاساً للموارد البشرية التي تمتلكها ليبيا والتي يمكن الاعتماد عليها في صناعة التغيير، لكان من المفترض أنها قد أثبتت وجودها كقيمة مضافة للمؤسسات الليبية، ولما رأينا واقع الحال الذي يسوده فشل وانهيار لغالبية مؤسسات الدولة سواء كانت تنفيذية أو تشريعية، وهذا بعينه يبين تناقضاً صريحاً، وبالتالي يجعل من الصعوبة بمكان تأكيد أو نفي وجود الكفاءات؟

ما طرح لم يكن بهدف التشكيك فى وجود كفاءات على الإطلاق، فبكل تأكيد نجاح كثير من الليبين في الخارج، وخاصة الذين أتيحت لهم فرصة الالتحاق بمنظومات عصرية وناجحة يؤكد وجود كفاءات ليبية، ولكنها تظل كفاءات فردية.


ولو سلمنا جدلاً أن عدد 3000 الذين تقدموا بسيرهم الذاتية للمشاركة فى الحكومة يمثلون كفاءات فردية حقيقية بالداخل، فإن واقع الحال أيضاً يبين أن وجود هذه الكفاءات كان غير مؤثر، وهذا الأمر في حد ذاته مثير للاهتمام، ويطرح أيضاً التساؤل: كيف يمكن تغيير واقع الحال الذى جعل من المحال الاستفادة من هذه الخبرات؟

يبدو أن قدرة هذه الكفاءات الفردية على التأثير في المنظومة القائمة حالياً تتلاشى في ظل هيمنة مباشرة من قبل أشخاص لا تمتلك مقومات النجاح وليست لديها الرغبة الحقيقية في انتشال المؤسسات من الفشل، ولكنها تمتلك صلاحيات تمكنها من قمع كل محاولات الإبداع والتغيير للأفضل، وبالتالي يعاد تدوير الفشل ليترسخ أكثر وأكثر، وبذلك وصلت غالبية مؤسسات الدولة إلى حافة الانهيار، كما هو الحال الآن.

فى 9 مارس 2021 قال رئيس حكومة الوحدة الوطنية أمام البرلمان إنه لم يختر إلا وزيراً واحداً في تشكيلة الحكومة، وهذا يبين أن ما تعرض له من ضغوط ومساوامات عند تشكيل الحكومة، قد أضاع الفرصة على العديد من الكفاءت الفردية الذين تقدموا بسييرهم الذاتية، هذا لو مرة أخرى سلمنا جدلاً أن ضمن العدد 3000 يوجد كفاءات حقيقية فردية، وأنهم قد قدموا أنفسهم استجابة لفتح باب الترشح للمناصب الوزارية. يؤكد هذا أيضاً صعوبة وصول الكفاءات القادرة على تولي المناصب الحساسة والسيادية ما لم يكن هؤلاء مدعومين من طرف ما له القدرة على التأثير على من يشكل الحكومة.

الخلاصة: في السياق الليبيي فقدت الكلمات ”كفاءة أو عندنا كفاءات“ معناها الحقيقى لأن مقاييسها وضعت من قبل فئات معينة خدمة لمصالحها، وللتسويق لمفاهيم خاطئة ينتج عنها اختيار شخصيات ربما غير مناسبة لمناصب سيادية أو وزارات معينة. وبالرغم من أن السياق الليبيى سريع التغيرات إلا أن بعض هذه المفاهيم المغلوطة أصبحت تترسخ وبعمق ولا يبدو أنها ستتغير قريباً، وبالتالي نتجت عنها أنماط من السلوك في طريقها لتصبح عرفاً عند اختيار الشخصيات للمناصب السيادية والوزارية.

هناك استحقاقات مقبلة ومن المفترض أنه سينتج عنها مؤسسات تشريعية وتنفيذية. وما حدث فى التجربة الليبية الحالية مؤهل جداً للاستنساخ فى المرحلة المقبلة من خلال انتخابات 24 ديسمبر 2021. بل وربما ستتطور العملية وستبدأ المساومات في مرحلة ما قبل انتخابات البرلمان! أي يمكن أن تتم مساومة المترشحين للبرلمان بحصولهم على الدعم مقابل تسمية أشخاص معينين فى الحكومة المقبلة. وفي حال ما تحقق هذا السيناريو وواجهت أي حكومة قادمة ضغطاً بالمحاصصة والمساومات، حينها يجب على الشعب الليبي العمل والتفكير خارج الصندوق، لإيجاد طرق للمناورة والضغط من جهته وبقوة لفرض نهج الشفافية ودفع رئيس الحكومة المسمى حينها لإيجاد طرق خارج الأنماط التقليدية لاختيار حكومته ولتبني رؤية يمكن من خلالها تسيير المؤسسات بكفاءة وفاعلية.

* أستاذة جامعية وناشطة في مجال حقوق الإنسان وبناء السلام.