Atwasat

ترقب من خلف النافذة

محمد المغبوب الأحد 11 أبريل 2021, 11:54 صباحا
محمد المغبوب

قبل الخمسينيات كان أجدادنا يترقبون خروج المحتل بعد أن شاطت جلودهم بسياطه، وأخذ وهو يبني عمرانا له محاذيا للسراي في طرابلس مثلا كان يكرس فعل وجوده، وأن تكون ليبيا كلها المزرعة الخلفية ليس لإيطاليا فقط بل لبلاد أوروبا حبوبا وغلالا وفاكهة وخضراوات وحتى ورودا ملونة، ولعناصر عدة تفاعلت وبقرار أممي تم إعلان استقلال ليبيا وتحول الترقب إلى آخر يكمن في تأسيس الدولة التي كانت بنظام ملكي يحميه الملك ويديره رئيس الوزراء، غير أن الحلم لم يكتمل بسبب قلة الموارد فشاع الفقر بين السكان يوازيه الجهل والمرض أيضا حتى تدفق النفط وبدأت ابتسامات الرضا ترتسم على الشفاه باستحياء ولم يغادر فعل الترقب حدود الأمل لأن وشوشات بدأت تلامس الأسماع حتى تحققت وعلا صوتها فكان الترقب في ما سيتم التخطيط له في الخفاء، فما برح الواقع يبتعد حتى كان خروج العسكر من المعسكرات يهدمون نظاما مدنيا يحلون مكانه بمجلس لقيادة ثورة زعمت أنها آخر المطاف لوجع وألم الليبيين حتى إن أحدنا لم يسألهم (من أنتم) فقد فرح الجميع بعملية التغيير خاصة وصوت عبدالناصر يجلجل من على القصر الثاني في طرابلس والجماهير تصفق له وهنا سكن الترقب ليتحرك في النفوس بعد أن وجد الناس أنفسهم يزدادون تخلفًا عن ركب التطور والبناء إذ ضرب العالم الخارجي عزلة لمدة طويلة حسبما فعله الساحر، وهو كل مرة يخرج من جرابه لعبة جديدة.

كان يمكن أن تكون الأمور أكثر جودة فكل المقدرات صارت جاهزة للخطط التنموية والتحول من الاستهلاك إلى الإنتاج وتغيير نمط الحياة البدوية إلى حياة هي الأوفر بمفردات العصر الجديد، وذلك ببناء مدن جديدة تحقق المدنية وتحقيق أكبر قدر من الرخاء والرفاهية للشعب كله، لكن ظلت الخيمة هي العنوان المبرق في كل العيون فتراجع الخط البياني عن تحقيق أهداف الثورة وبدأت الحياة تضيق ونشط الترقب أيضا حتى بعد الحديث عن بناءات جديدة ومحاربة الفساد والطبقية التي بدأت.

ترقب فرض نفسه ترجمته بشراسة عقب ثورة الياسمين في تونس وكان خروج الناس إلى الشارع والميادين ولم تفلح المقاومة خاصة بعد تدخل حلف الناتو حتى صار الترقب أيضا نحو ما سيؤول إليه الأمر فكان المجلس الانتقالي وبدأت القرارات تصدر منه حتى تم التسليم إلى المؤتمر الوطني ثم البرلمان برئيسه وأعضائه كذلك.

لم يسكن الترقب رغم تعدد الحكومات وكثرة الشعارات ووفرة الوعود الذهبية ولاك الجميع الأمضوغة
* الخير جاي!
لكن الخير لم يأتِ!
خلال كل سنوات الترقب تلك كان الخوف يهجم علينا من وقت إلى آخر فلم تعد حاجتنا إلى الأشياء الأساسية ولا نرغب في كماليات الحياة العامة بل شيء من الأمن، وآخر من إطمئنان إلى الغد كفسحة قصيرة قد يحدث الله بعد ذلك أمرا. من السيئ جدا أن تظن جارك هو من وشى فيك إلى السلطات، وأن نافذا يريد شراء بيتك عنوة، وقبل المغرب عليك أن تكون في جحرك، لهذا بات الترقب من خلف نافذة بيتك.

نحن، جيلا بعد جيل، نصطاد الترقب وهو يقع في شباكنا مرات، ومرات أخرى نخاف وضع السنارة في البحر كي لا تخرج سمكة وتبتلعنا على مهل حتى خشينا المشي عند الشاطئ، وكي تزيد الطيور ترقبنا أمانا صرنا نطعمها قمحا وشعيرا وأرزا وأصابعنا مرات.
ـ اللي يستنى خير من اللي يتمنى ـ تقول جدتي وكذلك أمي وكلتاهما تعلمان أن الأمنية هي الحلم الذي لا يتحقق، مع ذلك زيادة في العند نعاود الترقب من جديد بنفس حائرة وعيون قلقة، ونركن عند عدم حصولنا على ما نترقبه إلى الله سبحانه وتعالى عند صلاتنا ندعوه ونلح عليه تضرعا أن ينهي ترقبنا ويمنحنا ما نريد وتشتهيه نفوسنا اللوامة.

لهذا نلومنا ونضرب وجوهنا ونشق جيوبنا فالسبب هو ذنب عظيم لم نقترفه فأشياء كثيرة لم نفعلها فنحن لم نعلق صور الحاكم على جدران صالات وغرف بيوتنا، ولم نذهب إلى قصره عند الأعياد نهنئه ونطلب منه السماح على تقصيرنا مع فخامته، غير أن الترقب يسكن داخلنا ولا نقدر على زحزحته من نفوسنا.

غدا يا أخي ستشرق شمس جديدة من البرلمان الجديد، لكنها لم تشرق. غدا دول العالم الكبرى ستنحاز إلينا بعد أن صرنا مدعاة للشفقة.
غير أن الغد لم يأتِ.

من يدري فقد تضع الحرب أوزارها ويتصالح الطرفان وتصير حكومة جديدة.

الحرب تقف بعد أن استنزفت أدواتها، لكنها توزعت على كل الأرجاء، وتحولت كأي متحول في خلق الله إلى مماحكات بين السادة والقوى، فقد ولدت في غفلة منا الأحزاب وتناسلت التيارات فكثرت وأزدحم شارعنا بالمعاندين كل يرى نفسه وحده من على صواب وغيره الخطأ.
ما زلنا نترقب الوفاء بوعود الحكومة الجديدة.

تصالح بين القوى، توحيد المؤسسات، رفع المعاناة اليومية عن كاهلنا، زيادة في المرتبات، رفع قيمة المعاشات الأساسية لمن يحتاجها ونحن نمارس فعل الفرجة والانتظار معا لنهاية هذا العام؛ حيث الدولة الجديدة بدستور وبرلمان ورئيس للحكومة لبلاد واحدة لا انفصام لها مع أنها وافقت على بيع النفط بدولار وتبيع الدولار لنا بخمسة أضعاف وهكذا لا يستقيم الحال ويكبر الترقب لدينا.

نحن جيل عنيد عشنا ونعيش الترقب من خلف نافذة وأرجلنا في أيدينا قبل أن يطرق الباب نفتحه، لكن من نترقبه لا يأتي.
لماذا؟
لأننا قد اعتدنا على الصبر وأننا لا نستطيع ترك البلاد إلى أخرى مثل عدة شعوب في العالم؛ لأننا اعتبرنا أن موارد البلاد العظمى لن تكون إلا لنا وهو ما لم يحدث منذ تصدير أول باخرة له.

شعوب الأيرش والأنجلو والبولش والجرمن مثلا وكذلك الشوام في لبنان وسوريا وفلسطين والأردن، وشعب تونس والجزائر والمغرب مصر، وشعب أفريقيا من القبائل عدة كلهم والأغلبية منهم ترك موطنه ليستقر في أستراليا والبرازيل وأميركا وجنوب أفريقيا مثلا، أما نحن فقد مات نصفنا إبان الغزو الإيطالي ومع أن نسبة الزيادة في السكان لا تتجاوز الواحد أو الاثنين في المائة للعام فعددنا عند الخمسينيات لم يبلغ المليون وخلال الخمسين عاما لم يتجاوز الستة ملايين فيما يوم عن يوم تزيد الثروات من ريح وماء وشمس مع البحر والسماء كذلك الذهب والكوارتز وخامة الإسمنت والجير وترابة الزجاج إضافة إلى النفط والغاز، وكلها نوافذ تأتي بريح طيبة نترقب أن تدخل إلينا معها طيور الحجل مشوية، والأسماك مقلية مع هواء معتدل ينعشنا.

هكذا نحن نترقب الأجمل والأروع والأبهى على نحو فنتازي لا هو يتحقق ولا نحن نمل.

لهذا نحن لا نعود من طريق لا يوصل إلى هدف بل نكمل المسير حتى وإن كان آخر الطريق حفرة عميقة لا مصعد لها ولا معراجا نعرج به إلى السماء.

فها نحن أولاء نترقب نهاية العام عند ذكرى مولد المسيح ابن مريم عليهما السلام موعدا لانتخاب الدولة الجديدة وهي قطعة الحلوى الشهية التي طال انتظارنا لها نفك ورق السلوفان عنها، نأكل منها وأطفالنا ونلعب بنا لعبة الغميضة فقد جاء من كنا نرقبه من النافذة وقد أسرعنا في فتح الباب له يحتضننا كما يحتضن الحبيب حبيبه بعد غياب طال فيه انتظارهما له.

سيكون الدولار بثلث الدينار حيث حينها يلعب قطنا مع فأرنا ونعجتنا مع ذئبنا نحسب كل السنوات الفارطة ليست إلا أضغاث أحلام وقد أفقنا منها وصحونا على مائدة من السماء منزلة من رب كريم، ولا عزير بيننا ولا سامري ولا شيطان!