Atwasat

سيناريو النهوض وليبيا الممكنة

سالم العوكلي الثلاثاء 06 أبريل 2021, 10:41 صباحا
سالم العوكلي

انطلاقا من مدونة "مشروع ليبيا 2025 رؤية استشرافية ــ ثقافة نهوض وتنمية مستدامة" تطرقت في المقالة السابقة إلى السيناريوهات المحتملة وفق دراسة الأوضاع الراهنة في البلد آنذاك وأفق المستقبل حين تتوفر الإرادة السياسية في التغيير، حيث أفضت هذه الدراسات والبحوث المعمقة إلى ثلاثة سيناريوهات ممكنة: (1) سيناريو استمرار الأوضاع الراهنة و (2) سيناريو ثقافة النهوض والتنمية المستدامة و (3) سيناريو الاحتواء. وعرضت السيناريو الأول بكل ما يحفل به من كابوسية إذا ما استمرت أوضاع البلد كما هي آنذاك ــ ولأن منطلق هذه الكتابات مستقبل ليبيا الاقتصادي واعتماده على مصدر واحد هو على أبواب أن تتراجع أهميته في الاقتصاد العالمي مع تضاعف الاتجاه إلى الطاقات البديلة، غير الأحفورية، في العقد الماضي والعقد القادم ــ فإن الاقتصاد هو المنطلق الرئيس لهذه الملاحظات، وفي هذه المقالة سأعرض السيناريو الثاني "ثقافة النهوض والتنمية المستدامة" الذي اقترحه فريق الرؤية بناء على ما يزخر به البلد من طاقات كامنة وموارد معطلة، وما تعرضه الرؤية من إمكانية لاستثمار هذه الطاقات والموارد وعبر تطوير ثقافة مجتمعية محفزة لهذه الاستحقاقات الجديدة.

ينهض "سيناريو ثقافة النهوض والتنمية المستدامة"، وكما دُوِّن في التقرير النهائي للمشروع، على افتراض مجموعة من الديناميات الإيجابية التي تسهم في تحقيق مجتمع الأمن الإنساني الذي نطمح إليه. وتشمل ديناميات هذا السيناريو ما يلي:

إرادة سياسية داعمة للتغيير. تبني مفهوم الأمن الإنساني بمعناه الشامل (وقد ورد في منطلقات قطاع الأمن أن الأمن الحالي ــ آنذاك ــ هو أمن نظام سياسي وتعمل هذه الرؤية على تغييره إلى أمن وطني ثم إلى أمن إنساني). مأسسة الآليات الديمقراطية وتحفيز مجتمع مدني مستقل وفاعل. توظيف الموارد النفطية في تنويع مصادر الدخل والتنمية المستدامة (مع الأخذ في الاعتبار تذبذب أسعار النفط ووضع الخطط البديلة في حالة الانخفاض المفاجيء لأسعار النفط). دور جديد للدولة وقطاع خاص حيوي وفاعل. التقدير الموضوعي للأوزان النسبية للتوجهات الخارجية. التفاعل الإيجابي مع البيئة المعولمة وتيسر الوصول إلى التقنية.

أما تداعياته فتشمل: صدور دستور يحدد اختصاصات مؤسسات الدولة بما يحقق مصلحة الوطن ويكفل التوازن بين حقوق المواطن وحرياته وتحقيق الأمن والسلامة والاستقرار الوطني والمجتمعي. وجود قضاء نزيه ومستقل. تنامي مشاركة مؤسسات المجتمع المدني في الحياة السياسية والاجتماعية. حقوق ملكية مؤمنة دستوريا.

سيادة القانون واعتبار الكفاءة معياراً للأداء. تَشكُّل خطابٍ سياسي وثقافي منفتح. اتساع مساحة التعبير وحرية الصحافة والشفافية والمحاسبة. مناخ سياسي واقتصادي واجتماعي قادر على جذب الليبيين المقيمين في الخارج. اقتصاد معرفي تنافسي تتنوع فيه مصادر الدخل والطاقة، ويقوم فيه القطاع الخاص بدور أساسي ويضمن عدالة التوزيع، ويرتقي بمستوى معيشة أفراد المجتمع، وتتدنى فيه معدلات البطالة ومستويات الفقر. بيئة اقتصادية وسياسية وتشريعية جاذبة للاستثمار الخارجي. تنامي دور المشروعات الصغرى والمتوسطة في الاقتصاد الوطني. ظهور قطاعات اقتصادية قابلة للتطوير ذات ميزة تنافسية محلية ودولية.

خروج الدولة من دائرة توفير السلع والخدمات إلى إدارة الاقتصاد على المستوى الكلي وتوفير الخدمات ذات الجدارة الاجتماعية. بنية تحتية متكاملة في مجالات النقل والمواصلات والاتصالات. شراكة مجتمعية تحافظ على البيئة واستدامتها وتضمن حقوق الأجيال القادمة في ثروات المجتمع. سياسة بيئية تركز على الاستثمار في الطاقات المتجددة النظيفة. نظام تعليمي ينمي القدرة على الإبداع والتأمل والتفكير الناقد ويعزز الحوار والانفتاح واحترام الآخر.

ارتفاع معدلات الأداء في المؤسسات التعليمية وتوافق مخرجاتها مع متطلبات بيئة سوق العمل التنافسية. توطين العلم والتقنية وتضييق الفجوة الرقمية والمعرفية. تشكل مناخ ثقافي منفتح يرسخ قيم التسامح والاختلاف وحرية التعبير، وقنوات تمكن من تحقيق هذه القيم (صحافة حرة، منظمات مدنية وأهلية، منابر سياسية .. إلخ)

كل ذلك سوف يسهم في "خلق مجتمع قوي، ومنتج، ومتسامح وآمن، تحكمه دولة مستقلة حرة، ذات سيادة تحظى باحترام المجتمع الدولي وثقة مؤسساته. وإن أهم استحقاقات هذا الوضع هي الوعي بالأبعاد المشتركة بين الثقافة والتنمية والأمن وإحداث الموازنة اللازمة بينها.

هذا ما ورد فيما يخص سيناريو ثقافة النهوض وأذكِّر أنه كتب بين عامي 2007 و 2008 ضمن مدونة الرؤية. وهذه النقاط المتواترة التي تبدو حالمة لم تدخل في متن السيناريو إلا بعد رسم المنطلقات والأهداف والآليات في القطاعات المختلفة ضمن الوعاء الزمني الذي تتبناه الرؤية، وكما سبق أن ذكرت فكل الموارد والفرص لتحقيقها متاحة بقوة ولا ينقص سوى إرادة التغيير السياسية التي لم تكن مواتية آنذاك لأسباب سبق ذكرها.

طبيعة الرؤى الاستشرافية أنها تنطلق من تخطيط متوسط أو طويل المدى للقطاعات المختلفة ما يجعلها مرجعية أساسية للتخطيط القطاعي، وهي على وعي بأن القطاعات متناغمة ولا يمكن الفصل بينها لأنها تتضافر معا ويستجيب بعضها للبعض، وإذا ما اعتبرنا القطاعات عربات في قطار فإن الرؤية هي العربة التي تجرها جميعا نحو الهدف المشترك.

ومن جانب آخر، الرؤى لا تُكتب وتُترك لكن تُشرّع لها إدارة خاصة من البحاث والدارسين لمتابعتها وتنقيحها بما يلائم المستجدات المحلية أو الإقليمية أو العالمية، فهي تعتمد على حدوس مستقبلية وقد تتعرض لمفاجآت غير متوقعة، ومن مهمة هذا الفريق المتابع أن ينقّح أو يُفعّل البدائل أو يقترح المسارات المعدلة انطلاقا من أهداف المشروع وما يستجد من تحديات أو فرص، وستكون هذه الإدارة أو الهيأة مفتوحة لتطعميمها دائما بالبحاث والدارسين النوابغ من الشباب كي تواصل مسارها.

من أهم القطاعات (الذي عملت ضمنه) قطاع الثقافة والعلوم، وهو يأتي من إدراك أن أي تغيير لا يمكن أن يحدث إلا ضمن حاضنة ثقافية محابية تدعمه وبيئة علمية من شأنها أن توطن العلم والتقنية في المجتمع وتتجاوز مشكلة التعامل الاستهلاكي معها. لذلك يرد في منطلقات هذا القطاع ما يفيد بأن "كل تغيير إيجابي في نمط المستوى المعيشي يرتهن بإحداث تطور جوهري في نمط الثقافة السائدة، في وعي الأفراد وطموحاتهم، في رؤيتهم لدورهم في الحياة، وثقتهم في إمكان إحداث التغييرات التي تقترحها المشاريع التنموية؛ أي عبر استثمار الوعي الثقافي بوصفه طاقة تنموية فاعلة."

وعلى سبيل المثال، فإن أثر الوعي في التنمية "يتضح من حقيقة أنه في بلد يسيطر على نظامه الحس الأمني، أو يجزم أبناؤه بأن السياحة وسيلة لترويج مسلكيات مشبوهة من وجهة نظر أخلاقية، لا سبيل لقيام أي مشاريع سياحية، مهما كانت هذه البلد غنية بالآثار والمتاحف والمواقع السياحية." أما فيما يتعلق بالمجال الاقتصادي المباشر، فمن الواضح "أنه يتأسس على قيم ومعايير ترتبط بالإنتاج والاستهلاك.. فالانفتاح الاقتصادي حين تمارسه مؤسسات تكبلها مقولات القطاع العام وبيروقراطية آليته في التعامل، وتمتثل لذهنية ريعية تكرس ثقافة استهلاكية، قد لا ينتج إلا المزيد من العجز الاقتصادي.".

من ناحية أخرى لم يغب عن هذه الرؤية هاجسها الجمالي في التخطيط "إذ يلزم أن يقام اعتبار خاص للحس الجمالي في الأداء العام وتخطيط المدن والأرياف، وذلك للدور الذي يقوم به هذا الحس في تشكيل ذائقة المجتمع وسلوكه، ولكونه من أهم مؤشرات الحضارة البشرية في عمومها. والعمل الثقافي عموما "وإن ظل في حاجة لأن يمد جذوره في الثقافة الشعبية، يبقى في النهاية عملا تخبويا، ما يوجب الدفع بالنخب الثقافية والعلمية المرتبطة عضويا كي تسهم في حراك اجتماعي يؤسس لوعي شامل باستحقاقات التنمية الشاملة والمستدامة.".

أنجزت هذه الرؤية الاستشرافية تحت إشراف د. محمود جبريل وبتمويل من مجلس التخطيط الوطني الذي كان يرأسه، وكان لحضوره أثناء العمل أهمية كبرى في إلهام الفريق الكثير من الأفكار ومن جسارة طرحها في زمن صعب. حلت يوم أمس الذكرى السنوية الأولى لرحيله رحمه الله. وطيلة عملنا معه كان مثالا للشجاعة والوطنية والنزاهة والكفاءة والذكاء، وشكل رحيله خسارة كبرى لهذا الوطن الذي كم يحتاج للكفاءات النزيهة.