Atwasat

الفنان المصاب بـ (لا)

أحمد الفيتوري الثلاثاء 06 أبريل 2021, 10:32 صباحا
أحمد الفيتوري

الدولة  أرض والعرب طيور.

• مثل ليبي
عرفته مبكرا مثلما الصباح الباكر، ما شمسه حارقة، من أول أن بزغ كربيع قلق، وعلى عجل، شده الرحيل، لذا أخذ ينأى عن المكان كما عن الزمان، يشدو بالحرية، التي جعلته يتوجس من الركون.

كفنان مصاب بالرشح وزكام "لا"، لهذا منذ الصبا كان "محمد مخلوف" المختلف، من يختلف مع نفسه أولا وأخيرا. هذا المختلف من لا يعرف الركون، إرادته الطامحة، تعني أنه الفنان الطير، منطق الطير: من يجرب كل شيء كي لا تأخذه عادة.

كان من يبدأ ما سيتركه لغيره، هاجسه التجريب، وعدم الانغماس في شيء، فولع بشيء شده عن أن يكون ما يريد، فأصيب بدأ عضال اسمه "وطن"، الوطن الذي لم يعش فيه، عاش فيه حتى أكله، بل التهمه بتؤدة، على مهل كانت "ليبيا" تقطع روح العاشق الولهان، فتجعله في خصام مع الأنا والآخر.

لأن البلدان الصغيرة يقول الروائي ميلان كونديرا: -آه، الدول الصغرى. في إطار هذه الحميمية الدافئة، كلنا يحسد الآخر، كلنا يراقب الآخر. وأُضيف كلنا ينأى عما يحب حيث الحب نار، النار الضرورة مثلما الماء، لقد أصيب "محمد مخلوف" بالعطش من نار ما أحب.

لعل الحب إن زاد عن حده انقلب لضده، أو لعله من الضرورة أن يزيد عن حده، وإلا ما كان حبا. لم يختر "محمد مخلوف" من يحب، فالمرء لا يختار وطنه، كما لا يختار أمه، كذلك لم يختر أن يكون "محمد مخلوف"، من منذ صباه كان المُعارض، من سيموت المُعارض، وأن تكون حياته كما معارضة شعرية، فيها الشاعر فقد ظله، تحت شمس السياسة المفارقة التي أخذته، لأنه ضد العسف، ضد القمع، وضد كل مترادفاته.

كان ذا روح صنو الحرية، "محمد مخلوف"، من أصيبت نفسه بمُصاب: أن تكون ذات نفس حرة في عالم العسف. لقد تبدد جهده ووقته وما كسب، من أجل "وطن" مفقود، فقده حتى قبل أن يولد، فهو كما هومعروف: إبن بلد نكب من الدولي بالفاشي الإيطالي، ومن المحلي بالفاشي المستنسخ.

كان الصديق، من ساعة عرفت فقدت، منذ التقينا في أول سبعينيات القرن الماضي، وفي أول العمر، لم يستسغ هذا الصديق: حياة البلاد المأسورة الروح، فأسر من هذا الأسر بفكاك دائم، جعله السائح في بلاد السواح، في مدينة الضباب لندن، حيث فقد دفء الشمس الحارقة عاش، كان قبل في زيارة، في دورة صحفية قصيرة، فيها شم نسائم الحرية، في "بيروت" أول السبعينيات من القرن الماضي.

قاتل أن يكون حتى قتله هذا: أن يكون أو لا يكون، صرخة هاملت. أول ما عرفته كان الفنان المجنون بـ: الفن التشكيلي، فن السينما، فن المسرح، فن الإخراج الصحفي، فن الفن، ولم يحط في محطة، فرسم كاريكاتور النفس البشرية: التواقة إلى أن تكون كما لا أحد. من ذا وغيره كثير كان "محمد مخلوف" كما لا أحد، حتى أنه في تطرفه هذا، لم يرض أن يكون "محمد مخلوف"، في مرحلة من مراحله، ولا طور من أطواره الغريبة العجيبة حد الطرفة، وهو الطريف صاحب الطرائف والمقالب، الحاد والناعم كحد شفرة حلاقته، ما كان على خصام معها، فلا تراه الحليق أم الملتحي، الهيبي أم البتلز، الحق والحق يقال كان المتمرد وحسبه أن كان كذلك...

ذات مرة: رسم لوحة على ورقة فولوسكاب "A4"، لوحته شارك بها في معرض جماعي في مدينة بنغازي، اللوحة اليتيمة أذكر أنها ما شدتني من كل المعرض، كتبت عنها مقالة: هذه اللوحة طرشة مائية، بلون أخضر باهت، لشخص أوما يوحي أنه كائن بشري، ذا الكائن كما صرخة تنفجر أحشاؤه، بلون أحمر باهت أكثر، أسميت اللوحة الانفجار، كان هذا أول السبعينات أول العمر، عند العتبة الأولى من المعرفة، والذائقة، ووو... آخ.
ذات مرة: قال أمل دنقل

المجد للشيطان... معبود الرياح
من قال "لا" في وجه من قالوا "نعم"
من علم الإنسان تمزيق العدم
من قال "لا"... فلم يمت،
وظل روحا أبدية الألم!

ذات مرة: كان محمد مخلوف المختلف، ولو لم يكن كذلك ما كان.

ذات مرة: كان محمد مخلوف الفنان، من اختار أن يكون: المُصاب بـ "لا".