Atwasat

نحو مقاربة واقعية بشأن استرداد الأموال المنهوبة

الهادي بوحمرة الأحد 04 أبريل 2021, 12:15 مساء
الهادي بوحمرة

 

من أجل الوصول إلى مقاربة واقعية لعملية استرداد الأموال المنهوبة، يمكن الانطلاق من المقدمات الآتية:

1. الإرادة السياسية بشأن فتح ملفات الفساد وتتبع واسترداد الأموال المنهوبة في الداخل والخارج غير واضحة. إذ إنه في ظل الظروف السياسية والأمنية القائمة؛ من الصعب تبلور مثل هذه الإرادة، فمؤسسات الدولة غير قادرة على حماية نفسها في مواجهة التنظيمات المسلحة، ولا في مواجهة المتنفذين من داخلها وخارجها.

2. في هذه المراحل الانتقالية المتعاقبة؛ يمكن القول بأن السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية والمؤسسات الرقابية تعاني من خلل بنيوي، ولا تعمل وفق شرعية واضحة. كما أن أجهزة الدولة لم تخضع إلى إعادة فحص، ولا إلى تدبير تنقيتها من الفاسدين، ولا إلى عملية تطوير كوادرها؛ بحيث يمكنها التصدي لمسائل صعبة ومعقدة؛ كعملية استرداد الأموال المنهوبة.

3. إذا ما أخذنا في الاعتبار الانقسام المؤسساتي، والصراع الداخلي، والتدخل الأجنبي، فإنه من الممكن التأكيد على أنه لا قدرة لسلطات الدولة التعامل بندية مع سلطات الدول الأخرى التي توجد بها الأموال المهربة.

4. استرداد الأموال المنهوبة في جميع الدول هي عملية معقدة، إذ إن هناك عدة عقبات قانونية وفنية وإدارية، وتحتاج لنظام إجرائي خاص له فاعلية في تتبع الفاعلين والأموال ومواجهة القدرة على إخفاء مصدرها.

5. رغم محدودية نجاح التجارب المقارنة وما تتطلبه من وقت لاسترجاع جزء من الأموال المنهوبة؛ إلا أن هناك تراكمية يجب الاستفادة منها والبناء عليها.

6. في ظل عدم إكمال المسار الدستوري ومنع مشروع الدستور إلى دستور بالاستفتاء، والذي ينص على حظر العفو عن جرائم الفساد، وعلى ضمان استرداد الأموال العامة، واقتضاء التعويض عن إتلافه، أو الإضرار به، وعدم سقوط جرائمه بالتقادم" م20/ مشروع الدستور"، هناك خطر دخول السلطة في تسويات سياسية انتقالية، وإجهاض أي عملية تستهدف استرداد الأموال المنهوبة، ومحاسبة الفاسدين، وطي الصفحة بقانون للعفو العام، والعودة إلى نظام التقادم بشأنها.

وبناء على هذه المقدمات، فإننا نتقرح التركيز في هذه المرحلة الصعبة على محاور، منها:
أولا/ المنهج القائم على الاعتماد على إنفاذ القانون الداخلي، والوقوف عند ضعف فاعليته، والاستسلام لعراقيله هو منهج- غالبا- ما يفضي إلى الفشل في الحاضر والمستقبل. ومن أجل تفادي ذلك، نرى وجوب التركيز على توثيق جرائم الفساد الإداري والمالي، وجمع البيانات، والإفادات، والأدلة كافة من الداخل والخارج؛ بشأن اختلاس المال العام، وحالات الإثراء غير المشروع، وتوثيق التغيير في حالات الأفراد بشكل لا يتناسب مع مصادر دخلهم، والقيام بما يلزم من تحريات، وجمع استدلالات، من أجل بناء ملفات متكاملة في هذا الشأن، وبما يمنع من طمس الأدلة، ويسهل استرداد الأموال عند توافر إمكانية ذلك. ومن المفيد دعم منظمات المجتمع المدني في هذا الإطار.

أما بالنسبة للتقدم في مسار القضايا، فإن الأمر يعتمد على معطيات كل حالة على حدة؛ وبما يسمح بالنجاح فيها، وعدم إغلاق الملف عن طريق حكم بات يمنع من العودة إليه من جديد. ذلك لأن المضي في المسألة إلى نهايتها دون دراسة الظروف المحيطة بكل واقعة قد ينتهي بحكم له حجية وعنوان للحقيقة، ولا ينفع بعد ذلك ظهور أدلة جديدة، أو معرفة وقائع، أو ظروف تغير من وصف الواقعة، ولا يفيد التغيير المستقبلي في أداء السلطة القضائية.

ثانيا/ قد يكون من الأهمية بمكان في كثير من القضايا النظر فيما لا يمنعه القانون بدل النظر في ما يفرضه ويصعب إنفاذه.

ومن ذلك، أن الدعوى الجنائية في النظام الإجرائي الليبي قائمة على مبدأ الملاءمة الإجرائية، لا على مبدأ الشرعية، وهذا على خلاف ما أشار إليه تقرير فريق استعراض التنفيذ "الدورة التاسعة المستأنفة الثانية" بتاريخ الثاني من نوفمبر 2018م؛ حيث أورد في الصفحة 15/5 العبارة الآتية: (وتعتمد ليبيا مبدأ شرعية الملاحقة (المادة 1 من قانون الإجراءات الجنائية). وهو في ذلك يعتمد على الفقرة الثانية من المادة 1 إجراءات، التي يجري نصها على النحو الآتي: (ولا يجوز ترك الدعوى الجنائية، أو وقفها أو تعطيل سيرها إلا في الأحوال المبينة في القانون.).

إذ إن النيابة العامة هي التي تقدر المصلحة العامة في توجيه الاتهام؛ سواءً في صورته المبدئية أو النهائية، أو العدول عن ذلك؛ وفقا للمعطيات المحيطة بارتكاب الجريمة وبمرتكبها، وبعد موازنة تجريها بين مصالح ومفاسد تحريكها ورفعها، فالمشرع لم يحدد أسباب الأمر بالحفظ أو الأمر بألا وجه لإقامة الدعوى "م 49، 182 إجراءات"، فمن الممكن بناؤهما على اعتبارات اجتماعية، أو سياسية، أو اقتصادية تتعلق بالمصلحة العامة، أو مصلحة المشتبه فيه، أو المجني عليه. وإذا كان الأمر كذلك؛ فإن المسألة تختلف بشكل جذري، وبإمكان النيابة العامة النظر في بدائل الدعوى الجنائية، وتقديم مصلحة استرداد الأموال المنهوبة على إنزال العقوبة المنصوص عليها بالجناة، وهو حكم مهم جدًا في إطار رسم السياسة التي تسير عليها الدعوى الجنائية، والتعامل مع ظروف ومعطيات واقع كل قضية على حدة؛ بما يكفل تحقيق المصلحة العامة.

ومن هنا؛ فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو كيف يمكن لسلطة الاتهام أن تبني سياسة للمصالحة الاقتصادية، وبشكل يحقق مصلحة المجتمع في استرداد الأموال، والمصالح الأخرى ذات الطبيعة السياسية؟ وقبل أي تدخل تشريعي بالخصوص.

ثالثًا/ عند توافر لوازم الشروع في عملية استرداد الأموال المنهوبة من خلال البلاد بشأن واقعة ما، فإنه يجب ملاحظة أن الخطة التي تكتفي بالجمع بين القانون الداخلي وإنفاذ اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد لن تقدم الكثير في مجال استراد الأموال المنهوبة، وأن التقيد بالتعاون الدولي المؤطر والاستناد بشكل كامل على المساعدات القانونية لن يؤديَ- في الغالب- إلى نجاح ملحوظ، كما تشهد بذلك تجارب الدول التي تعرضها عدة دراسات متوافرة بشكل واسع في ثنايا البحوث والدراسات والكتب الورقية والإلكترونية.

وإذا كان الأمر كذلك، فإن المنهج الذي يمكن أن يقدم نجاحا ملحوظا في مجال استرداد الأصول المنهوبة هو الذي يذهب إلى أبعد من كل ذلك. فكل واقعة من الوقائع تحتاج إلى فحص خاص، وإلى استحداث آليات مناسبة لها، والتي قد لا تكون ملائمة لغيرها. ومن ذلك أن كل قضية من قضايا هذه العملية قد تحتاج لفحص نظام قانوني مختلف، وتحديد ما يسمح به قانون الدولة التي توجد بها الأموال من خيارات. ففي حالات يكون خيار الإجراءات الجنائية مناسبا، وفي أخرى يكون الخيار المدني أكثر فاعلية. وفي حالات قد يكون من المناسب العمل على إصدار أوامر قضائية، أو الوصول إلى أحكام إدانة من القضاء الوطني، وفي أخرى قد يكون من المهم الولوج مباشرة للجهات المختصة في الدولة التي توجد بها الأموال، والعمل على استصدار أوامر منها. كما أنه من الوارد أن تكون الفاعلية في إدخال الوقائع في نموذج تجريمي للفساد، في مقابل حالات أخرى تكون فيها الفاعلية كامنة في إدخالها في النموذج التجريمي لغسل الأموال، أو في إخراجها من مسار الإجراءات الجنائية نهائيا، واللجوء بها إلى بدائل أكثر نجاعة، وذلك كله حسب معطيات كل قضية، ووفق نتائج دراسة الأحكام والتقاليد القانونية للدولة التي توجد بها الأموال المراد استردادها.

وفي هذا الإطار، على القائمين على عملية استرداد الأموال إدراك عقبات التعاون الدولي، فكما أنه قد يكون من المناسب الاعتماد على المساعدات القانونية، قد يكون من المناسب تفضيل اللجوء إلى المساعدات غير الرسمية، واتباع سبل غير قضائية، والبحث في إمكانية اللجوء إلى نظرائهم، أو غيرهم بشكل مباشر، واستغلال إمكانيات جهات غير حكومية ولا تتبع السلطة القضائية من أجل تعقب الأصول المنهوبة، وجمع التحريات، والوصول إلى أدلة بشأنها.

رابعا/ نرى أهمية أن تكون مسألة جرائم الفساد والجرائم الاقتصادية واسترداد الأموال المنهوبة جزءا لا يتجزأ من نظام العدالة الانتقالية. فكشف الحقيقة، والذي هو الركيزة الأهم للعدالة الانتقالية، لا يجب أن يستهدف فقط انتهاكات الحقوق السياسية والمدنية بل يجب أن يمتد إلى انتهاك الحقوق الاقتصادية والاجتماعية. فكما يجب تفكيك ماضي الانتهاكات الجسيمة للحقوق المدنية والسياسية، يجب- أيضا- تفكيك جرائم الفساد، وتحديد نطاقها ومرتكبيها حماية للحياة السياسية ولمستقبل التنمية، وكما لا يمكن إعادة التوزان للمجتمع دون كشف حقيقة الانتهاكات للحقوق السياسية والمدنية، لا يمكن-أيضا- إدراك ذلك دون كشف انتهاكات الحقوق الاقتصادية واسترداد الأموال المنهوبة.

ومن الممكن اختصار نتائج إدخال جرائم الفساد واسترداد الأموال المنهوبة ضمن نظام العدالة الانتقالية في النقاط الآتية:
1. عدم الاقتصار على الطابع الجنائي للفساد الإداري والمالي، وإبراز البعد الحقوقي، وبيان آثاره على السلم المجتمعي. وبما أن هدف العدالة الانتقالية هو منع التكرار للانتهاكات الجسمية لحقوق الإنسان، فإن تدابير منع التكرار يجب أن تستهدف- أيضا- انتهاكات الحقوق الاقتصادية، وتصميم ما يلزم للوقاية من الفساد الممنهج.

2. إخضاع جرائم الفساد وعملية استرداد الأموال للنظام الإجرائي الخاص "الاستثنائي" للعدالة الانتقالية من شأنه أن يحقق فاعلية أكبر من فاعلية النظام الإجرائي التقليدي، ويسمح بتجاوز عقبات إجرائية قد تؤدي إلى انقضاء الدعاوى الجنائية عند توافر سبب من أسبابه، أو الحكم فيها بالبراءة نتيجة لمخالفات إجرائية. كما أن النظام الإجرائي الخاص من الممكن أن يسند اختصاصات لمؤسسات بعيدة عن الكادر الإداري التقليدي، وعن تراكمية الفساد، وعن تأثيرات الدولة العميقة.

3. تنوع تدابير العدالة الانتقالية، يعطي فاعلية إضافية في مجال مواجهة جرائم الفساد واسترداد الأموال. فالعدالة الانتقالية تتميز بتنوع المسارات والوسائل، فما لا تكون بشأنه التدابير القضائية فعالة، قد تحقق بشأنه التدابير غير القضائية نتائج إيجابية.

4. إدخال كشف الحقيقة بشأن جرائم الفساد لمنظومة العدالة الانتقالية يمهد للفحص المؤسساتي، ولتنقية دواليب الدولة من الفاسدين؛ وفق منهج لا يخضع لقيود منظومة العدالة التقليدية. ويدفع بمنظومة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية؛ لتقترن بمنظومة الحريات السياسية والمدنية عند بناء النظام السياسي والقانوني المستهدف بعد مرحلة الانتقال.

في ختام هذه المقاربة، نرى التركيز على مسألتين:
1. بما أن عملية استرداد الأموال المنهوبة في المرحلة الانتقالية عملية صعبة، فإنها تحتاج إلى بناء قدرات خاصة تستطيع البحث والوصول إلى وسائل غير تقليدية، ولها مكنة قراءة وإنفاذ القوانين؛ وفق معطيات الواقع، وبما يحقق أكبر قدر ممكن من الفاعلية، وهو أمر لا يمكن الوصول إليه عن طريق مجالات التكوين التقليدية. إذ لا يكفي مجرد استيعاب القوانين الوطنية، ولا مجرد الإحاطة باتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، وسبل إنفاذها. كما أنه يجب إدراك متطلبات وعقبات التعاون الدولي، وإتقان إمكانيات النفاذ إلى الأنظمة القانونية للدول التي توجد بها الأصول المنهوبة، والتمكن من إعمال آلياتها بكفاءة.

2. يجب الحفاظ على ما ورد في مشروع الدستور من أحكام دستورية تمنع توظيف مسألة كشف الحقيقة في جرائم الفساد وعملية استرداد الأموال لاعتبارات سياسية، وتضع قيودا على السلطات التشريعية والتنفيذية القادمة في هذا الإطار.