Atwasat

أبوبكر جعودة.. القصيدة الأخيرة

سالم الكبتي الأربعاء 31 مارس 2021, 09:02 صباحا
سالم الكبتي

الشعر والكلمة والموقف أمور تواجه الطغاة. لايستقيم حالهم الأسود معها. إنهم ضد رجال المواقف والوطنية والمبادئ والقيم في كل وقت وفي كل زمن. ومع ذلك يمضي الطغاة إلى ما وراء التاريخ بعيدًا.. بعيدًا. وفي صفحاته يظل يشير إليهم بكل مقت جزاء لما ارتكبوه في حق إنسانية الإنسان ووطنه وحياته وحريته. الطغاة ينهارون.. يتهاوون أمام وجود الإنسان على الدوام حتى وإن غدا شهيدًا في الأعالي.

في ليلة الجمعة- السبت، الموافقين للخامس والسادس من إبريل 1941، منذ ثمانين حولًا، بنغازي في الظلام. لا تشعر بقدوم الربيع ولا بقرب أيام الحصاد. المدينة مهجورة وموحشة وأقدام المحتلين تمضي وتروح. والقصف والرماد. وأطراف المدينة متباعدة عن بعضها في الليالي والأيام. والحكايات مصلوبة في ثنايا الصمت والخوف الطويل. الحرب والقصص التي تمتلئ إلى حافتها بالحزن والسوء. والسكان يفرون هنا وهناك. شرقًا وغربًا وجنوبًا منها. إلى اللثامة وسيدي خليفة. إلى القوارشة والفعكات. إلى سلوق وجردينة. إلى كل الأماكن البعيدة عن الضربات الجوية المتلاحقة.
يتسامرون تحت أضواء السرج الواهنة ويتدفأون بالحطب والفحم ويعدون الشاي بالتمر ومن بعيد في الليالي الحالكات يشاهدون المدينة تحت وهج النيران وأصوات القنابل العنيفة. ثمة عائلات اضطرت لظروف عديدة إلى البقاء في بيوتها في بعض الأزقة. تلتزم بها ولا تخرج. إنها الحرب ولياليها ومآسيها. الحرب التي دمرت العالم وزحفت إلى ليبيا وحاصرت طبرق وفتكت ببنغازي وباقي المدن بلا توقف. الحرب يصنعها الطغاة ويدفع ثمنها الأبرياء.

تلك الليلة كانت رهيبة بالفعل. وعرف الناس لاحقا، عندما لاح الصباح وطلعت الشمس، إن خمسة من (عيت جعودة) استشهدوا معا عقب الاعتداء على بيتهم في زنقة الطيرة بحي البركة. كانت أعين الفاشست المقابلة لذلك البيت تترصدهم. تتبع أخبارهم بكل غدر وحقد. مر بالبيت في زيارة للعائلة ابنها الضابط علي جعودة. حضر من مصر مع قوات جيش التحرير السنوسي والحليف الإنجليزي في تحريرها الأول من الطليان. ظل ذلك المشهد في ذاكرة البيت الفاشستي المقابل. الذي ضرب صفحًا عن الجيرة والجوار والعلاقة الإنسانية المفترضة. وحين عاد الطليان في دخولهم الثاني إلى المدينة ذلك العام واحتلوها من جديد نهض الحقد اللعين من مكمنه وانفجر في بيت عيت جعودة من الوشاية الفاشية المقابلة.

كان البيت الصغير يضم العائلة. يجمعها في الحياة والعمل والسمر والحركة.

في التفاؤل والحلم. في التعب والراحة. كان عميدها صالح إبراهيم جعودة أحد أعيان المدينة ومن أعضاء المجلس البلدي. ومعه ابناه: إبراهيم وعثمان. الأخير كان نجارًا ماهرًا عمل من ضمن الأسطوات الفنيين في إعداد وتجهيز أبواب وشبابيك قصر الحاكم الذي تمت أعمال إنشائه وأضحى لاحقًا قصرًا للمنار أعلن منه استقلال الوطن وصار مقرًا لأول جامعة ليبية. تاريخ يتسلسل ويمتد بقوة. ومعه أيضًا: أخواه أبوبكر وموسى جعودة. رجال تم الغدر بهم وقتلهم بطريقة وحشية تلك الليلة أمام أفراد العائلة من النساء والأطفال الذين نجوا بأعجوبة من تلك الكارثة.

أبوبكر جعودة. المثقف والشاعر الكبير. كانت قصيدته الأخيرة تلك الليلة.

يبرز شاهدًا رائعًا على الموقف والنضال بالكلمة في وجه الطغاة. إنه يمثل نموذجًا لمثقف المدينة الأصيل تحديدًا منذ مطلع أعوام العشرينات من القرن العشرين. وكان عمر جعودة شقيقه شاعرًا لا يقل فنية أو وطنية عنه.

في تلك الأعوام من القرن التاسع عشر؛ حيث ولد الشاعر.. ستشهد بنغازي أعوام القحط وشح الأمطار وسيتناهى إلى سمعه الصغير مصطلحات تتردد على الشفاه: (عام الدقيق) ثم (عام الكبه) و (حريق سوق الظلام).. وغيرها من أحداث أخرى مما وعتها ذاكرة الشعب وموروثه الثقافي والاجتماعي على حين تطرق سمعه بين حين وآخر في مربوعة الأسرة، في بيتها الأول القديم على شاطئ بحر الشابي، حكايات الرجال الكبار عن عصيان القبائل في المناطق المجاورة وتمردها المستمر على دفع الضرائب للسلطة التركية التي ضيقت عليها الخناق. وفيما يظل يرنو باتصال إلى البحر الممتد أمام البيت الكبير ويستنشق نسيمه مراقبًا انكسار أمواجه فوق بعض الصخور سيدرك أبوبكر جعودة في مرحلة لاحقة أن فلول الطليان الغازية وصلت إلى الوطن في بوارجها لتبدأ في قصف أول البيوت المطلة في سكينة على البحر. كان الحلم الإيطالي يريد أن يكون الوطن كله شاطئًا رابعًا لأحفاد الرومان الغزاة!

وهنا تشرع نفسه الشجاعة في إحساسها المرير بالعسف فتحمل في أعماقها المتمردة الشعور الوطني بعدم الركون إلى الظلم والهوان وتحس أن وراءها واجبًا ورسالة يتعين القيام بهما، فأنشأ وهو صاحب الموهبة والثقافة في توجيه عامياته الشعرية إلى صور الاحتلال الممتد أمام بصره وعلى طول بلاده. كان يهتف بكلماته المقاتلة، وهي تغدو ذات أهمية وشأن كبيرين لا يقلان عن هتاف المقاومة إلى استشهاده وعائلته بعد ثلاثين عامًا من غزوهم لبيتهم بعد غزو البلاد عام 1911.

حياته في المدينة وماجاورها تلك الأعوام تنوعت بعلاقات اجتماعية وثقافية وفنية مع كثير من مجايليه ثم اجتازت حدود البلاد. انضوى في نادٍ ثقافي أسسه في بنغازي مع الصحفي عوض بونخيلة وهو في الوقت نفسه ابن شقيقته حلوم جعودة. كان النادي نواة أو غطاء لتنظيم وطني يستهدف جمع شتات أبناء المدينة من المثقفين الواعين لمواجهة المحتل ومحاربة ثقافته بكل السبل واحتواه في نشاطاته مع آخرين أمثال: أحمد مخلوف ومهدي الكيخيا وعمر فخري المحيشي وساسي بن شتوان وغيرهم. وعندما استغولت يد القمع الفاشي هاجر بعضهم.. مخلوف إلى مصر وتوفي في حمام مريوط وبونخيلة وبن شتوان إلى تركيا. ورحل جعودة إلى بغداد والتقى شاعرها معروف الرصافي الذي كان يتواصل معه قبل ذلك من بنغازي بعلاقة فكرية ومراسلات عديدة. كان جعودة معجبًا بشعر الرصافي ونقله إلى محبي الشعر والفن في جلسات الأصدقاء التي شهدها النادي أو في المرابيع من صالونات المدينة أو على شاطئ البحر في ليالي الصيف. وهناك في بغداد (منارة المجد التليد!) وعلى شط دجلة وبمساعدة من صديقه الرصافي يلتحق بعمل في إحدى شركات البترول ويشارك أيضًا في بعض الأعمال الوطنية والمظاهرات ضد الإنجليز الجاثمين على أرض العراق.

قضايا الإنسان والتعاطف معها لاتعترف بالحدود. تجمع الليبي بالعراقي مع كل إنسان في العالم. وتحت عنف الملاحقة والمطاردة يرحل سيرًا على الأقدام من العراق وتولت بعض القبائل العربية إخفاءه في مضاربها. ثم يعبر أرض السواد والشام ليستقر فترة من الأعوام في فلسطين ويتزوج هناك ويواصل مساهماته في المظاهرات والعمل الوطني ضد الانتداب البريطاني. الاحتلال واحد سواء في ليبيا أو في بغداد أو في القدس ولا تختلف مصائبه وجراحه المؤلمة بين الجميع.

وفي ديار الشام يحن إلى الديار هنا في ليبيا. يتغزل في الوطن. يهتف بصدق. بالرموز والمواجهة. وتضيع أغلب هذه القصائد، ويفقد الوطن تراثًا هائلًا وكنوزًا لا تعوض.

في ليلة الجمعة والسبت منذ ثمانين حولًا. في إبريل 1941. بنغازي بلا ربيع. الوطن بلا حصاد. الحرب والقصف والموت. عيت جعودة. أبوبكر جعودة الشاعر والمثقف والشهيد.. كانوا القصيدة الأخيرة.