Atwasat

المرتزقة

رافد علي الثلاثاء 30 مارس 2021, 11:09 صباحا
رافد علي

تصعب صياغة تعريف موحد للمرتزقة بسبب تنوع التقنيات العسكرية، وتزداد القضية تعقيداً مع انتشار مبدأ التخصص في العلوم العسكرية الحديثة. ومن الناحية العملية تبقى صياغة تعريف للمرتزقة أمراً معقداً نظراً لسرية المعلومات والإحصائيات المتعلقة بعالم المرتزقة - شركات الخدمات العسكرية - بكل أنواعها التي شرعت تنتشر في العقود الأخيرة. إلا أنه في عموم الأمر، تاريخياً يعتبر المرتزق هو الشخص الذي يبيع نفسه للمشاركة في القتال.

قضية المرتزقة في ليبيا أُثيرت بشكل رسمي وواضح في كلمة السيدة ستيفاني، المبعوثة الاأممية السابقة في ليبيا، لافتتاح الجولة الثالثة للحوار الوطني، إذ صرحت بأن هناك أكثر من عشرين ألف مرتزق ينتشرون بالبلاد، ويشغلون أكثر من عشر قواعد عسكرية بشكل جزئي أو كلي. مما أثار جدلية كبيرة في الشارع الليبي حينها، وسط مخاوف من انهيار عملية الحوار الوطني لأجل الوصول لتسويات سياسية بين أطراف النزاع المنخرطة في عملية تفاوضية وصفت بـ "الهشة" لأكثر من مرة حينها. قبل أيام قليلة، أشار المبعوث الأممي لليبيا بان كوبيتش إلى أن هناك حالة إجماع من قبل المسؤولين الذين التقاهم على ضرورة إخراج المقاتلين الأجانب، وهو أمر يرفع المعنويات بالنسبة للشارع الليبي، الذي لازال على باب الرجاءات.

المرتزقة تاريخياً، المواطن العربي يعيش حالة من الألفة معها كمصطلح كونها شكلت ظاهرة في فترات تاريخية مختلفة من تاريخنا، إلى جانب أشكال عسكرية أخرى مختلفة كالمماليك والانكشارية وفرق اغتيال الحشاشين، التي منها اشتقت الانجليزية مفردة Assassin.

في أوربا كانت المرتزقة معروفة أيضاً خصوصاً في الفترة الممتدة بين القرن الثالث عشر إلى القرن الخامس عشر، إذ ذاع صيت زعماء الكوندوتييرو في إيطاليا، واللاندسكنيشت في ألمانيا، وانتشرت في سويسرا شركات المرتزقة، واستمرت وقتئذ تدخلات المرتزقة في الصراعات الأوربية مما أطال أمدها حتى ظهور الدولة الحديثة القومية في أوربا وتحريم المرتزقة، لتصبح الدولة هي الجهة الوحيدة الحائزة على شرعية عناصر القوة، والجهة المخولة بممارسة الإكراه لفرض إرادتها السياسية وسلطانها الإداري. لقد كانت معاهدة وستفاليا عام 1648 هي التي أنهت الحرب الأوربية التي استمرت ثلاثة عقود، فترسخت الدولة كبنية أساسية، مبعدة غيرها من اللاعبين في القضايا الدولية كالملوك والباباوات والإقطاعيين، الذين لجؤوا جميعاً للمرتزقة مما زاد من أمد الحرب بسبب تلاعب المرتزقة بأطراف الصراع وممارسة نهج خلط الأوراق سياسياً.

اليوم في العالم المُعوّلم، حيث لم تعد الدولة هي اللاعب الوحيد في الساحة الدولية، إذ توجد الشركات متعددة الجنسيات، والمنظمات العالمية، والمنظمات غير الحكومية كأمنيستي، وكذلك أثرياء العالم العابرين للقارات بنفوذهم المالي، أمام كل هذا أضحت عودة المرتزقة بمناطق التوترات العالمية أمرا ممكناً، لكن بأسلوب يتماشى مع متغيرات حاضرنا. فهؤلاء اللاعبون الدوليون الجدد أضحت لهم مصالحهم في العالم، ولهم القدرة المالية للتعاقد مع المرتزقة لأجل حماية مصالحهم وذواتهم، كما يرى المرتزق السابق شون ماكفيت في كتابه "المرتزقة الجدد" إذ يرى بأن "القروسطية" بروح الارتزاق المسلح فيها تعود للوجود عن طريق شركات الجيوش الخاصة.

تبرز أهمية كتاب ماكفيت في كونه أول كتاب يتحدث عن المرتزقة من داخل عالم المرتزقة ذاته أو شركات الجيوش الخاصة، فإلى جانب كونه ضابطا سابقا بالجيش الأمريكي، وعمل مع عدة شركات مرتزقة خاصة في عدة دول من العالم، فهو رجل أكاديمي بجامعة جورج تاون الأمريكية الشهيرة، فكل التقارير والكتابات السابقة حول المرتزقة في العصر الحديث التي أصدرها صحفيون في الغرب جاءت مبنية على الإثارة. إلى جانب أن المعلومات الواردة فيها تعاني من انعدام الشفافية كما هو الحال في كتاب:licensed To Kill. Privatizing The War on Terror لروبرت بيلتون. كما أن دراسات الأكاديميين بالخصوص كانت مبنية على إحصاءات ومعلومات تعوزها الدقة، وذلك لأن شركات الجيوش الخاصة تعمل بروح الانضباط العسكري، التي لا تحبذ أن يخوض أجنبي عنها في أمرها أو يطلع على شأنها، دع عنك انه يكتب عن تفاصيل عالمها. فمعظم كبار رجال شركات الجيوش الخاصة من الضباط المتقاعدين أو الخبراء الذين غادروا العسكرية. فهذه الروح العسكرية من الانضباط والكتمان لعبت دوراً كبيراً في تقبل الغدارة الأمريكية توقيع عقود Blackwater الشهيرة في افغانستان والعراق، حسب ما يوضح صاحب الكتاب المذكور.

شركات الجيوش الخاصة ظهرت اولاً على يد مجموعة من ضباط القوات الخاصة في جنوب أفريقيا تحت اسم Executive outcomes عام 1994، وعملت في عدة دول أفريقية مثل كينيا وأنغولا، وعرضت خدماتها على الأمم المتحدة للتدخل لصالحها في أزمة روندا، إلا أن الأمم المتحدة رفضت العرض، لكن الشركة أوجدت فرص عمل لها في ليبيريا والسيراليون حتى عام 1998حينما صدر قانون في جنوب أفريقيا يجرم هذا النوع من الشركات. كاتب المرتزقة الجدد يرى أن الشركة الجنوب أفريقية انتهت لأن الولايات المتحدة لم تمنحها اهتماماً، رغم فعالية تدخلاتها بفضل تقنياتها العسكرية المتطورة، التي كانت تلعب دوراً حاسماً دائماً.

ماكنيت في كتابه يشير إلى أن الولايات المتحدة لجأت إلى الاستعانة بشركات المرتزقة بعد الحرب الباردة بغرض تحاشي الضغط والسخط الشعبي حيال سياستها في العالم. فقد وقعت واشنطن بشكل رسمي ومعلن بعد غزو أفغانستان عقداً مع شركة دينكورب إنترناشيونال التي مارست عدة مهام َهناك، بما فيها خدمات حراسة كارازاي، بعقد قيمته مليار دولار. وتعاقدت واشنطن بعد غزو العراق بعقد ضخم أيضاً مع شركة بلاك ووتر لعدة مهام كالحماية الشخصية والتمويل واللوجستيات والتسليح والتدريب. ويحذر المؤلف، كمرتزق سابق ومطلع وكأكاديمي، من شركات المرتزقة بسبب طبيعتها التجارية أساساً، إذ ستعمل هذه الشركات على إطالة عمر الحروب والأزمات لأنها المستفيد الأكبر، ومن دون مراعاة لحقوق الإنسان ومستقبل الشعوب والأوطان. فهذه الشركات مع كل فضيحة إعلامية تمسها تلجأ لتغيير اسمها التجاري، كما حصل في قضايا تورطت فيها بلاك ووتر في العراق فغيرت اسمها لـ XE و Academi على التوالي.

في العالم المفتوح اليوم على التجارة عبر النفاذ في كل الاتجاهات متجاوزا الحدود بكل سهولة في عرض عقود الخدمات بكل أنواعها، أصبح من المتوقع أن تنتعش شركات الجيوش الخاصة بكل تخصصاتها العسكرية القتالية والإمدادية وشئون التدريب وقوات الدعم الميداني ورفع الجاهزية العسكرية وغيرها من التخصصات. فالمؤلف في كتابه الصادر عام 2014 توقع أن شركات الخدمات الخاصة في طريقها للازدهار، وتنبأ بظهورها في كلٍ من روسيا والصين، وقد أصاب في الحالة الأولى، في حين أن الصين لم نسمع عنها شيئا من هذا القبيل رغم كل التقارير المنشورة عن تزايد القوة العسكرية الصينية، إلا أن تركيا يبدو أنها منخرطة في هذه السوق الدولية. فشركات المرتزقة لن تزول بسهولة لأنها تنشط في سوق عالمية يقدر بالمليارات، ولن تسعى هذه الشركات الربحية لترك مكانها في السوق العالمي بسهولة. فالقانون الدولي نصوصه لازالت غير صارمة في هذا الخصوص، والقوانين المحلية للدول الكبرى كالولايات المتحدة قد تمنح فرصا لهذه الشركات كي تستمر، رغم خطورتها على الدول الهشة أو التي تنهشها الحروب، بما سيكون صعباً عليها الإفلات من فك الطامح والمرتزق على حدٍ سواء، مالم تفق من غفلتها وتكبح جنون هوسها بالاقتتال كحل لقضاياها. فشبح "خصصة الحروب" ظاهرة جديرة بالانتباه إليها بحذر لمن يهمهم الأمر.