Atwasat

واقع الحال

الهادي بوحمرة الأحد 28 مارس 2021, 12:11 مساء
الهادي بوحمرة

تتنوع انتماءاتهم من تطرف إلى تطرف، وتتعدد شعاراتهم من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، وفي أغلبها ما يكفي من قطعيات وبديهيات ومسلمات، في عقولهم سواد قاتم، أو بياض ناصع، ولا وسط بين هذا وذاك. يحتلهم التعصب، يسكنهم العناد، وتكفرُ قلوبهم كراهية الآخر.
سواءٌ كانوا مرتدين لعباءة الدين أو لعباءة المدنية، الحل لديهم واحد، لا يقبل التأويل، ولا التعديل، يُسوّدون من يعارضهم، ويُبيضون سواد من ينحاز إليهم، ويتفننون في طمس ما يظهر من حقائق تنال من أفكارهم وعقائدهم. قد يمكرون بقول جزءٍ من الحقيقة، ولكن ليس كل الحقيقية، قد يصدقون، لكنهم يصدقون فيما يقولون، ويكذبون فيما يخفون، قد يعترفون، لكنه اعتراف بالصغائر؛ من أجل إنكار الكبائر. استحسنوا مقاييسهم لشيطنة الآخر، ثم انقلبت عليهم. منطق الأبيض والأسود فعل فعلته بينهم، ضيعوا به مخارج، ودخلوا به مخانق، وغاصوا معه في أزمات. راجعوا به التاريخ، استنطقوا به الواقع، خاضوا به حروبا، ضيعوا به أرزاقًا، حجبوا به عقولًا، وانساقوا وراءه كالأنعام. لم يمنعوا استعماله ضد من يحسبونهم آخرين، فكيف لهم أن يمنعوه بينهم؟! فليس لأي منهم قلبان في جوفه، ولا رأسان على جسده. دفعوا الثمن فرقة، ودمارًا، وبغضاءَ، وأحقادًا. ظنوه وقاية لهم من الخصوم، فأصبحوا به خصوما لبعضهم البعض، صنعوا له رموزًا، منهم ما يُعرف به الحق، ومنهم ما يُعرف به الباطل، وألسنتهم تصفهم إما بالحسن المطلق، وإما بالقبح المطلق.

تقاسموا الحقيقة، كلٌ له شطر منها، ومعها كثيرٌ من الباطل، تسابقوا لإفراغ خزائن المال؛ بعد أن نهبوا مخازن السلاح. تبادلوا حلفاء الخارج، وتوزعت بتحالفاتهم مصادر القوة بينهم. منهم من يرى في كتب الأولين الهدى بعينه، ومنهم من يرى فيها الضلال المبين، منهم من يقبلها جملة وتفصيلا، ومنهم من يرفضها دون نظر وتمحيص.

نُصِب الصندوقُ بينهم فجأة في غير بيئته، تكوينهم في الماضي والحاضر يمكن أن يمدهم بما يلزم من الحجج لنقض حكمه، فمن الممكن القول إن مرتاديه من العوام الجهلة، ومن الممكن الدفع بالتزوير، ومن الممكن إثبات عدم عدالة حكمه بغير ذلك من قواعد الدنيا، أو من قواعد الدين، فهناك كثير من مسلمات المذاهب الفقهية وبديهيات المنظمات الدولية ما يكفي لإفساد إي منهج يسعى لكلمة وسطٍ بينهم.

زادت جدران الدولة تصدعًا، تنازعت أذرع القوة البلاد بينها، تداخل القتل الحرام بالقتل الحلال، وطريق الضلال مع طريق النضال، فالضرورة ليست نفس الضرورة، وتقديرها بقدرها يختلف من معسكر إلى آخر، وكلٌ يريد أن يكون الظاهر والباطن في دواليب الدولة، وليس هناك إلا سبيل واحدٌ، يجب أن يسير فيه الجميع، وإلا فلتبقَ البلاد على ما هي عليه، أو فلتذهب إلى الجحيم.

تكاثر بالفوضى الأثرياء داخل الوطن وخارجه، وتحولت دولٌ إلى مغسلة لأموال الشعب، بنوا خارج الوطن ما وعدوا الناس بينائه داخله، واستمتعوا بما قالوا إن من حق جميع الناس الاستمتاع به، واشتدت بفسادهم وطأة الأزمات. الناس اليوم بين مطرقة الفقر وسندان قمع مليشيات القبيلة والمدينة والحزب والجماعة. توالت الحروب، ومع كل حربٍ يزداد الفقراء، والقتلى، والأرامل، والفاقدون لأطرافهم وأعمالهم وأرزاقهم، ويتفاقم الظلم، وتهرب الكفاءات، وتتبدد الثروات.

فقدت كثيرٌ من الكلمات معانيها، فلم يعد للحرية معنى، وأصبحت الديمقراطية تثير السخرية، والانتخابات مهزلة، وزالت قدسية وعظمة التكبير من قلوب الكثير، فقد ارتبط في أذاهنهم بالحرب والدمار بدل السكينة والوقار، وأصبح الملتحي مخيفا، والمرتدون لربطات العنق مخادعين، والسياسيون أفاكين، والمنتمون للأحزاب دجالين، ولكلٍ منهم دورٌ في مسرحية، تُكتب فصولها بأقلامٍ غير أقلام أهل الوطن، وتُلعب على خشبة الوطن.

هم اليوم يدركون أكثر من أي وقت مضى أنه لا تحرير يأتي من وراء الحدود، ولا يمكن لمناضلٍ أو ثائرٍ أن يأكل على موائد الأجانب مهما ضاقت به الحال، وأن لمثل هؤلاء غايات تبرر لهم استعمال كل الوسائل. لسان حال زعماء بلادهم يقول نحن ومن بعدنا الطوفان، ولا يهم إن ذهبت البلاد إلى الهاوية، وما لباس الحرية والعدالة والكرامة الذي ظهروا به على الناس إلا وسيلة نصبٍ وخداع.