Atwasat

النفط الحجري

سالم العوكلي الثلاثاء 23 مارس 2021, 10:05 صباحا
سالم العوكلي

تقول التقارير أن ناتج الطاقات البديلة تضاعف أربع مرات أثناء السنوات العشر أو العقد الثاني من الألفية الثالثة، وسيتضاعف مرة أخرى مع نهاية العقد الثالث من الألفية، بمعنى، أنه بحلول العام 2031، ستتراجع قيمة الطاقات الأحفورية إلى أدنى معدلاتها، ومع بداية الألفية الرابعة سيصبح النفط أو الطاقات الأحفورية مثلها مثل الفحم الحجري في هذا الوقت، وستغدو حقول النفط مهجورة أو تعمل بأدنى معدل مثلها مثل مناجم الفحم التي هُجرت أو تدنى مردودها.

ليبيا دولة مازالت تعتمد كليا على صادراتها من النفط ومشتقاته، وإذا لم تضع خطة حتى العام 2030 لتنويع مصادر الدخل وإنجاز بنية تحتية لمصادر أخرى في هذا العقد الذي سيحتفظ فيه النفط بأسواقه وأسعاره، فإنها ستكون بعد عقد ونصف ضمن أفقر الدول الإفريقية.
ويتطلب هذا المشروع إنجاز بنى تحتية لمصادر دخل جديدة، أهمها السياحة وتجارة العبور والاستثمارات الأجنبية، إضافة إلى تحفيز القطاع الخاص وتطوير الاقتصاد الخدمي واقتصاد المعرفة، وكلها مصادر بقدر ما تحتاج إلى رصد مبالغ ضخمة لوضع بنية تحتية لها، تحتاج إلى فضاء من الانفتاح على العالم واقتصاداته والتخلص من العزلة المزمنة، ومن هواجس الأجنبي القديمة التي أرساها النظام السابق الذي عاش أربعة عقود في ظل وسواس المؤامرة والاستعمار والإمبريالية، وجعل من اقتصاد ليبيا اقتصادا ريعيا معتمدا على مصدر واحد طيلة عقود حكمه.

الطاقات البديلة؛ مثل طاقة الشمس أو الرياح، موزعة على جميع مناطق الكوكب، ولم تعد مصادر الطاقة محتكرة على الدول المنتجة للنفط، وحتى الدول التي لا تتمتع بمعدل سطوع شمسي كاف فإنها تتمتع بطاقة رياح مهمة وبينابيع بركانية ساخنة تسهم في إنتاج وافر للطاقة البديلة، أو بطاقات كهرومائية بوجود أنهار وسدود ومساقط مائية.

تتمتع ليبيا بساعات سطوع شمس طويلة طيلة العام، وبمناطق تهب عليها الرياح القوية معظم فصول السنة ما يجعل لها مستقبلا في أهم الطاقات البديلة، غير أن تصدير مثل هذه الطاقات أمر معقد، وربما في السنوات القادمة سيحقق العلم والتقنية قفزات مهمة نحو سبل تخزين هذه الطاقات ونقلها، إضافة إلى الغموض الذي يتعلق بأسواقها باعتبارها طاقات منتشرة على كل سطح الأرض، وفي الأحوال جميعا لابد أن يرصد خلال هذا العقد الذي نبدأه ميزانيات ضخمة لإنجاز البنى التحتية لهذه الطاقات، ولتدريب الكوادر المختصة فيها، وإبرام عقود مشاركة مع شركات كبرى يمكنها أن تستثمر في هذا الامتداد الجغرافي الشاسع بما يحشد به من مصادر وبما يعود على ليبيا من فوائد.

السياحة واستغلال المناخ والشواطيء والصحارى الليبية في مشاريع سياحة نوعية سيكون مستقبلا من أهم مصادر الدخل الذي يحتاج إلى توفير سبل الجذب والراحة وكل البنى الخدمية للسياحة، إضافة إلى ما تطرقت له سابقا من استثمار ذكي لمشروع طريق وحزام الحرير الصيني الذي وصل إلى إفريقيا الوسطى وفي الشمال إلى شواطيء أوروبا، خصوصا إيطاليا، ونعرف الدور الذي لعبته ليبيا منذ أزمنة سحيقة في أن تكون معبرا لانسياب السلع من العمق الأفريقي إلى السواحل الليبية، ثم أوروبا.

كل ذلك يحتاج إلى تنمية ثقافة محابية وحاضنة لهذه التوجهات، من الممكن أن يسهم القطاع الخاص والتجارة الحرة في إرسائها حين يوفران فرص عمل وآفاق رفاه للمجتمع يجعل من القابلية للانفتاح على العالم مصدرا للدخل والرفاه.

كثيرا ما أعود إلى قراءة أهم مدونة في التخطيط الليبي الاستشرافي "ليبيا 2025 رؤية استشرافية ــ ثقافة نهوض وتنمية مستدامة" التي أنجزها مركز البحوث والاستشارات بجامعة قاريونس العام 2008، تحت رعاية وإشراف وتمويل مجلس التخطيط الوطني برئاسة المخطط الإستراتيجي د. محمود جبريل. أقرأها بحرقة ممزوجة بفخر بهذا العمل المهم الذي قام به فريق من الخبراء الليبيين، وبمشاركة قطاع واسع من النخب الليبية عبر تجول الفريق في أكثر من مدينة ليبية وحواراته المباشرة، وعبر استكتاب عشرات من المختصين الليبيين في قطاعات مختلفة. وهي مدونة مازالت صالحة لتفعيلها بقوة لأنها تتعامل مع ثوابت تتعلق بطبيعة الإمكانات الليبية الكامنة وآفاق تنميتها وتطورها. وحين راجعنا هذه المدونة بعد ثورة فبراير لم تُحذف منها كلمة لأنها رؤية علمية تتعامل مع معطيات على الأرض، وتحاشينا أن تكون لها صلة سياسية مباشرة بالنظام أو حتى بقاموسه اللغوي أو أيديولوجيته، ولم يعدل فيها سوى جانبين: طبيعة التحديات التي تواجه الكيان والمجتمع التي استجدت بعد سقوط النظام، والثاني يتعلق بالعقبة الأساسية التي كانت تعترض هذه الرؤية فيما يتعلق بالإرادة السياسية المتناقضة مع سيناريوهاتها وأفكارها، والتي من المفترض أن تكون زالت بعد سقوط النظام، ولكن لأن الرؤية تتعلق بثقافة النهوض الشاملة بما فيها آليات كبح الفساد، أُهمِلت حتى من قبل السلطات الجديدة بكل حكوماتها.

فيما يخص موضوعنا الأساسي المتعلق بالأفق الاقتصادي المقبل لليبيا أمام بداية تراجع دور النفط الأحفوري، تطرقت هذه الرؤية إلى إتاحة مناخ سياسي وأجتماعي وثقافي حاضنا لبيئة جديدة من تنويع مصادر الدخل، حيث تعين إحدى ملامح المجتمع الجديد في "اقتصاد منتج، ومتنوع مصادر الدخل، مبني على أسس معرفية تقنية، يقوم القطاع الخاص فيه بالدور الريادي، وتضطلع الدولة بدورها في إدارة الاقتصاد على المستوى الكلي، بما يحقق الاستخدام الأمثل للموارد؛ اقتصاد يمتلك ميزة تنافسية في مجال الخدمات، خاصة في مجالات الاستثمار التقليدية، ويصل فيه النمو في الناتج المحلي الإجمالي غير النفطي إلى معدلات مرتفعة، وتتميز معدلات الأداء فيه بالتوازان والاستقرار، ومعدلات التضخم والبطالة بالاعتدال؛ يضمن عدالة التوزيع وعدم التفاوت في الدخول ويرتقي بمستوى معيشة أفراد المجتمع، ويسهم في منظومة الاقتصاد العالمي مع بقية الدول على أسس متكافئة.".

لم يكن هذا مجرد إنشاء مترف في الرؤية، لكنه مرفق بآليات عملية دقيقة تستثمر في مقدرات البلد ومحتواها البشري الطموح، ووفق تموضعها المناسب في السياق العولمي، ووفق الموارد المتاحة مستقبلا، وموارد الدخل التي مازالت خاما، ولم تُفعل لأسباب سياسية أو أيديولوجية.
في ملخص التقرير النهائي تختزل هذه الرؤية مساحة الفرص المتاحة لها وطبيعة المجتمع الناتج عن الاستثمار فيها كما يلي: "من عرضنا لجملة الإمكانات الكامنة التي يتعين تحقيقها، والتحديات المستقبلية التي يتوجب الاستجابة إليها، والفرص السانحة التي ينبغي اغتنامها، وتأسيسا على ما عرض من استشراف لمستقبل ليبيا يحدد طبيعة مجتمع الأمن الإنساني الذي يتوجب أن نسعى إليه، والذي يستوفي استحقاقات النهوض والتنمية المستدامة، فإن المجتمع الذي تطمح إليه الرؤية في آفاق 2025: مجتمع مؤسس معرفيا، يعتز بهويته العربية والإسلامية، ويحقق كل فرد فيه نفسه، بينما يسهم في رفاهة الكل؛ مجتمع يفي استحقاقات البيئة العولمية ويشارك بدروه في الحضارة البشرية المعاصرة، ويعي أهدافه ويسعى إلى تحقيقها في ضوء استقراء موضوعي لإمكاناته وخياراته، ويدير مؤسساته بكفاءة وشفافية، ضمن إطار ديمقراطي، ويتمتع أبناؤه بحقوقهم ويتساوون فيها أمام القانون وينعمون بعيش يتناسب وموارد وطنهم وقدر مشاركتهم في الإنتاح." .

لعل من يقرأ هذه الرؤية الحالمة المبنية على معطيات وإمكانات كامنة في المجتمع سيعتقد أنها بعيدة المنال بعدما حصل لهذا الكيان من تشظٍ وتشتت، وبعد أن أصبح يفصلنا على نهاية أفقها (2025) أربع سنوات فقط، لكنها مازالت صالحة للاستفادة منها في أي تخطيط مستقبلي، وقد تحتاج إلى بعض التعديلات والتنقيحات بناء على المتغيرات التي حدثت في هذا العقد الماضي، محليا وعالميا، دون أن تفرط في متنها وجوهرها المنطلق من دراسات لماضي وواقع ومستقبل ليبيا، وفي قطاعات مختلفة لا يمكن التخطيط لإحداها إلا عبر تناغمها مع بقية القطاعات، باعتبار تاثيرها المتبادل على بعضها. وما يشجع أيضا كونها تخلصت من العقبة الكأداء متمثلة في النظام السابق، أو ما سمي في نصها "الإرادة السياسية"، وهذا ما حدث حين وصلت الرؤية إلى رأس النظام حيث مزقها ورماها خلفه كما فعل مع مدونة ميثاق الأمم المتحدة، دون حتى أن يتصفحها، قائلا: هل ثمة من يفكر في البلد غيري.