Atwasat

الإنسان

رافد علي الإثنين 22 مارس 2021, 10:38 صباحا
رافد علي

الإسلام كما هو لازال تياره التقليدي بكل تحفظاته مقصراً في شرح دينه فعلياً مع مبادئ العصر. فالمسلم الذي لا يحتاج لفاتيكان، كجوهرية رائدة في الإسلام، بقصد الوصول لخلق الإنسان "الأممي"؛ الذي يمكنه العيش كمسلم بمبادئه ويتفاعل مع العالم بروح مفتوحة بعيدة عن التشنجات الذهنية المؤدلجة، وضمن أسس دينه السمحة من خلال إبداعه الفني الشخصي لفهم مقاصد دينه، فـ "المؤسسة" الدينية الراهنة تفضل أن تبقى في مركز الدفاع بلا طرح السماحة الإسلامية بطريقة شفافة في خطاب عصري، فذات المؤسسة التقليدية تهاجم الجميع فقط بمفردات "لا" و "حرام" و "لا يجوز"، وجميعها ردود مبنية علي عنعنة ونقل ووحدة قياس بدائية تخلى عنها أبوحنيفة كمسلم متفتح. الإسلام بالشرق اليوم، فشل في خلق هذا الأممي، وفي الغرب، حيثما حرية التفكير ومراكز العلم والابتكار، عجزنا فعلاً أيضا عن خلق ذاك المسلم، بسبب تعالي تقليديتنا المأزومة وحاضرنا العاجز، عن خلق فقه مهجري كإبداعية تسمح بالابتكار بما يتجاوز التقليد، وتفتح قنوات حوار عصري مع أهل التقليدية في الشرق. فمعظم المؤسسات الدينية في المهجر تسبح في فلك مرجعيتنا التقليدية، ومحكومة بعالمية البترودولار.

الإسلام لم يشيد "كنيسة" أو مؤسسة عليا تمارس حق التحليل والتحريم كسلطة روحانية على أتباعه بقصد خلق إنسان أممي يحمل ربه في وعيه ووجدانه، ولذا خاطب قُرآننا الكريم "أهل الذكر" بشكل مفتوح، "فاي شخص قادر على أن يكون من أهل الذكر" متي تسلح بعدة فهم دينه ومقاصده، فحفظ الدين، كمقصد من مقاصد الإسلام الخمسة يفترض أن لا يدخل في الشريعة، ولكن في العقيدة"، كما يرى جمال البنا، الشقيق الأصغر لحسن البنا، مؤسس حركة الإخوان- فما يتصل بالله كمحور إسلامي يتم عبر الإيمان المبني على الحكمة والموعظة الحسنة، ولا يمكن أن يُدخل فيه قسرٌ من قِبل أي سلطة عليا كانت. فـ "لا إكراه في الدين". فالإنسان المؤمن الراقي في سلوكه وأدبياته وأخلاقه هو الهدف السامي في ديننا الحنيف، بكل ما للمفردتين "الإنسان" ثم "المؤمن" من دلالة قِميّة في منهاج الإسلام. فالإسلام ليس بحاجة لمجرد بشر تابع فقط يقيم الفرائض بوجدان مرتبك، مالم نقل مشوش، بسبب تناقض التنظير مع واقع عصر لا نسيطر عليه كأمة تصنف بأنها غير متقدمة على جل أصعدة زماننا. فالعالي سبحانه ليس بحاجة لهذا النوع من البشر، لأنه سبحانه قد كلف الإنسان بأمانة الاستخلاف في الأرض بما يعزز مكانته ويزيد من كرامته كحافظ لكل الأسماء.

لقد توارى مفهوم الإنسان في الأدبيات الإسلامية نظراً لأن كل الاعتبار في ثقافتنا الشرقية يظل للجماعة أو القبيلة والعصبيات، رغم أن القرآن خاطب الإنسان، كصيغة مفرد، في 43 مرة، وأفرد سورة كاملة باسمه، مفضلاً مفردة إنسان على لفظ بشر، بما يوضح أن المرء المخاطب بالقرآن وجب أن يبني نفسه بفهمه لمبادئ الإسلام كدين أممي وتقدمي، فالإنسان قيمة، أعلى مرتبة من أن يكون بشراً يعيش على هامش الحياة، يسعى فيها كروتين دنيوي، متجاهلا قيمة العمل والاجتهاد والإبداع كخليفة على الأرض، يحمل أمانة الله في صنع كل ما هو جميل، داعياً للسلام وللحب، بما يعزز كرامته الإنسانية بعدما عزز كيانه البشري، بالعلم والمعرفة والإيمان كجوهرة يزرعها في ضميره، مواجهاً خَطب الدنيا وحيويتها. هذه النقاط نجدها غائبة في خطابنا الديني تماما "فالإسلام يريد إنسانا.. لكن فقهاء التقليد يريدون الإسلام" وهذا مَحكنا كأمة في مواجهة تاريخنا وحاضرنا.

جمال البنا يري بكتابه "مسؤلية فشل الدولة الإسلامية" أن إقحام مؤسسة الدولة، كسلطة تمارس الإكراه في صميم كيانها أينما كانت، أو حلت سيلوث العقيدة، لأن السلطان القمعي عموماً، لا يزرع الفضيلة، أو يقلع الشهوات، فالإيمان يزدهر في رحاب الحرية كفطرة آدمية، وهذا هو عماد الإنسان الأممي المقبل على الحياة بإيمان راسخ وثقة، ليكون خير سفير لقيم جميلة أساسها العمل والبناء والمحبة. يصعب عليّ أن أجد خطبة جمعة تتحدث عن المحبة، ولو بنهج الصوفية، فالصوفية أيضاً تيار إسلامي تتضايق منه السلفية كثيرا لأسباب متعددة. الكتاب المذكور أعلاه للبنا فيه نظرة نقدية ثاقبة وموضوعية للتيار الإسلامي عموماً، وخصوصاً حركة الإخوان المسلمين باعتبارها الأوسع انتشاراً، وباعتبار أن ذات الحركة قريبة للكاتب، كونه شقيق الشيخ المؤسس حسن البنا. ذات المؤلف، في كتابه "كلا ثم كلا" ينتقد التقليدية باعتبارها تتشبث بالعتيق بلا مراعاة حقيقية للانكباب علي تحديث نفسها ومضامينه، كما ينتقد الليبرالية بحسها التغريبي، وأن كلا التيارين لا يركزان على الإنسان كعامل لتحقيق خطوات في سبيل النهوض، داعياً اليمين واليسار لأن "يتصافحا"، ويكملا بعضهما البعض، بحيث يكون المثقف فقهياً، عالماً بالدين، ويكون الفقيه مثقفاً، على علم بما يجري في مناحي العلم والتقنية والفكر، بدل الانغلاق في حلقات الدروس وتحفيّظ القرآن وتلقين الدين بلا توجيه صريح للفرد المتلقي بأن عليه تحمل مسؤلية وجوده، "نحن لا نريد مسابقات تحفيّط القرآن، نحن نريد مسابقات تفهيم القرآن" كما يقول أحمد عصيد.

تاريخياً لم يحظ الفرد بالاهتمام على مدى تاريخنا الإسلامي، كما لم تكن الرعية عنصراً حيوياً في بناء الدولة بسبب شيوع حالة احتكار صنع القرار بين الأعيان وعليّة الأقوام، فكرامة الإنسان لازالت ليست قضية ساخنة في مفاهيمنا التي تلح على يومنا، رغم كل شعارات المواطنة المرفوعة في أوطاننا، ولعل هذا يفسر اهتمام الإعلام الغربي بشعار "كرامتنا" في ربيع تونس، إذ عُد شيئاً لافتاً حينها، لأن الغرب يدرك جيداً مدى المحنة التاريخية التي يعيشها الفرد في أرضنا. لكن ذات الشعار يكاد يكون قد تلاشى كلياً اليوم، مما يجعلني أراه حالة طفرة في المطالب، أكثر من كونه ركيزة أساسية في خطاب العامة لقياداتها أو أرباب أمرها في ثقافتنا العربية، التي عرفت أدبيات الأنسنة لفترة قصيرة. فـ "الإنسان أشكل عليه الإنسان" كما يقول التوحيدي.
الوجودية كفلسفة، ما يميزها هو نزعتها الإنسانية، إذ تتمحور اهتمامات الوجودية حول عقل الإنسان وعواطفه وانفعالاته وقيمه. ظهرت الوجودية بأوربا في الدنمارك أولا ثم ألمانيا ثانياً، قبل سطوع نجم سارتر في فرنسا كوجودي بعد أن عاشت القارة العجوز شبح الحرب العالمية، فقد شاعت الوجودية في فرنسا بكل أنماط الحياة، تماما كما طفرة الموضة، ثم تلاشت بعد أن أمست ذكريات بشاعة الحروب وتبعاتها، حسب تعابير فؤاد زكريا في كتابه "خطاب للعقل العربي". ميزة الوجودية أنها فلسفة تتبني الإنسان عقلاً وروحاً بعكس الفلسفات الأخرى التي تراه عقلاً فقط، وتجرده من وجوده الملموس. نزعة الأنسنة في تاريخنا الإسلامي كانت فترة قصيرة، و تلاشت كلياً لاحقا، لدرجة أننا لا نذكرها. محمد أركون عندما قدم أطروحته عن الأنسنة في التاريخ الإسلامي منتصف القرن الماضي واجه بعض الصعوبات الأكاديمية تمثلت في قلة المصادر من جهة، ومن جهة أخري كان عليه إقناع بعض الأكاديميين في السوربون بأن نزعة الأنسنة الإسلامية قد برزت في مرحلة من تاريخنا، ويرجع أركون ذلك لذيوع صيت ثقافتنا على أنها ثقافة الجماعة والعصبيات، وأن الفرد لا يحظى بمكانة خاصة في منظومتنا الفكرية، فاختفت أدبيات الأنسنة بموت روادها كالتوحيدي ومسكويه كما أن للجاحظ إسهاماته في هذا الاتجاه. وجب التنويه إلى أنه بعد هزيمة العرب أمام إسرائيل انخرط العديد من الكتاب العرب في دراسة الإنسان العربي، وفي تحليل عقليته لأجل الوقوف على بعض النتائج.

ليست مقالتي هذه انحيازاً للنزعة الفردية التي ترعاها الليبرالية الحديثة، فهي منتقدة على نطاق فكري بين نخب مختلفة في الغرب كما يفعل ستيفان فايدنر ونعوم تشوميسكي، ولكني أحببت أن ألفت انتباهنا إلى أننا بحاجة ماسة لأن ننظر أكثر للإنسان، وأن نعمل لأشكلة وضعه، وأن نهتم به وبقضاياه، ليكون سيد ذاته ضمن نسق ثقافة تمنحه ذاتيته المنفتحة على العالم بقيمه النبيلة في الحياة. واقعنا الراهن والمحشور بين التقليدية وعداها بكل التضاد فيه حالة تثير الحسرة، لأننا نهدر الزمن والفرص في أن نبني إنسانا، وفي أن نتقدم كحضارة لنخرج من محنتنا القائمة، ولن يتسنى لنا ذلك طالما أن إنسانَنا لم يصل لعصره بعد.