Atwasat

ليبية مابعد المرتزقة

نورالدين خليفة النمر الخميس 18 مارس 2021, 12:27 مساء
نورالدين خليفة النمر

تتميز الحكومة في علم السياسة عن الدولة، وبلغة الفلسفة، تكون الدولة بمثابة الجوهر والحكومة عرضها الذي تتحقق به. أو إتمامها الذي تُكمل به نقصها. وعندما يعجز المجتمع المنقسم على نفسه على التوافق على العناصر الدستورية للدولة: السكان (المواطنون) والأقليم والسيادة، تكون الحكومة بمثابة وسيلة لتعيين آلية تنظيم الدولة لتحدد معالمها المنقوصة .

في الحالة الليبية الراهنة يبرز عنصر السيادة نقصاً فادحاً في معالم مايمكن وصفه بالمتبقي من الدولة بعد الجماهيرية الفوضوية. وإزاء هذا النقص رحبت ـ عدا ألمانيا ـ الدول الضالعة في تحقق الاستقلال الليبي عام1951: الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا بالتصويت على الثقة بالأغلبية الساحقة من أعضاء مجلس النواب على حكومة الوحدة الوطنية. وفي بيانها يحوز عنصر السيادة الليبية بالغ الاهتمام. فاستعادته اعتبرت خطوة بلا رجعة تجاه هدف انسحاب جميع المقاتلين والمرتزقة الأجانب من جميع أنحاء ليبيا. ويبدو أن توّحد الدول الأوروبية إزاء هذا الأمر جاء توافقاً مع طلب الرئاسة الجديدة للولايات المتحدة الأمريكية من الدول التي أرسلت المرتزقة والأسلحة التي تضر بالليبيين الأبرياء، أن تسعى لبدء سحبهم واحترام الدعوات الأممية المتكررة لمساعدة الليبين لنبذ العنف الأهلي والانتقال السياسي السلمي.

اللافت في البيان الصادر عن خُماسي الدول الغربية ترحيبه بانسحاب القوات الأجنبية والمرتزقة في إشارة إلى مرتزقة فاغنر الروسية من المنطقة المحيطة بمطار القرضابية، للسماح لأعضاء مجلس النواب بالمشاركة بأمان في جلسة البرلمان لمنح الثقة للحكومة الموّحدة في سرت. وأثنى في ذلك على عمل اللجنة العسكرية الليبية المشتركة (5+5) لجعل ذلك ممكناً. وتنبني هذه الإشارة إلى مرونة حركة انسحاب القوة المرتزقة انسحاباً مؤقتاً، تعقبه عودتها إلى المطار إلى الاعتراف بوجودها. في ظل سيطرة مُسمى الجيش الليبي، وتحديد مسؤوليته عن انتشارها في الشرق الليبي والجنوب، بحكم سيطرة قواته على حقول النفط، وأن هذه القوة المرتزقة تأخذ غطاء قانونيتها من مشروعيته التي اصطنعها له البرلمان في فترة انقسامه على نفسه الذي شطر ليبيا إلى شرعيتين سياسيتين برلمانين وحكومتين وجغرافيتين تعبث فيهما القوات الأجنبية معقّدة المشهد السياسي الذي يؤمل انفراجه بحكومة تحضر البلاد لانتخابات ترسي دعائم شرعية رئاسية وبرلمانية جديدة تتجاوز كل الأزمات السابقة. بعد تجريم القانون الدولي للارتزاق العسكري الفردي ظهرت في معادلات العلاقات الدولية بخصوص استخدام القوة ممارسة مرتزقة جديدة سميت بالشركات العسكرية الخاصة، وهي كيانات تخضع وتمارس نشاطها وفق ما يقرره القانون الخاص للدولة التي تنتمي إليها. إلا أن نشاطاتها المنافية للنظام العالمي وحقوق الإنسان بدأ في الآونة الأخيرة يثير العديد من الإشكاليات على صعيد القانون الدولي في المسألة المتعلقة بالتكييف القانوني للمتعاقدين مع هذه الشركات بالقياس مع الوضعية التجريمية للمرتزقة المُشار إليها آنفاً في القانون الدولي .

نتجاوز التعريف التقليدي ذا الطبيعة الفردية للمرتزقة، ونرحلّه إلى وضعيتها الراهنة، إلى شركات مقاولة، تتدخل بها الدول ذات الطموحات التوسعية الإمبريالية، في البلدان المأزومة والمقسومة بالعنف الحربي والأهلي. لنصل إلى تحديد من يتم وصفهم في البيانات السالفة المتعلّقة بالأزمة الليبية بالمرتزقة، نجد أن شركة المرتزقة "فاغنر" الروسية التي ليس لها صفة تجارية محددة، ولا حتى وجود قانوني، هي ماينطبق عليها التعريف وتبلوره المتزامن مع تطور الشركات العسكرية الخاصة في روسيا مع نهاية عام 2000، مرفوقاً باهتمام متزايد من طرف المجتمع الاستراتيجي الروسي بهذه الظاهرة. ولكونها لا تتمتع بأي وضع شرعي، فسُجِّلَت الشركات العسكرية الروسية ـ اليالغة وقتها في حدود الـ 20 شركة ـ كمرافق تجارية بسيطة دون غطاء القانون، الذي يحظر نشاط المرتزقة، فيما هو منصوص عليه في المادة الـ 359 من قانون العقوبات الروسي .

يعود الفرق الأساسي بين مجموعة "فاغنر" والشركات العسكرية الخاصة التقليدية، إلى أن الأولى شاركت في الحروب على نحو الخصوص، في عمليات مسلحة مختلفة، كالعدوان على العاصمة طرابلس. فيما لم تقم الشركات المقاولة الأخرى بأي نشاطات قتالية. ويبدو من نشاطها القتالي كقوة مأجورة، أنّ شركة "فاغنر" تؤدي دور المكمّل البديل الذي يسمح لموسكو بالمشاركة في عمليات عسكرية من دون الحاجة للزجّ بقواتها العسكرية النظامية، وبالتالي من دون أن تكون مضطرة إلى تبرير تورطها.هذه الطريقة في العمل، المسماة "الإنكار المقبول" (plausible deniability) استعملت بصفة متكررة في مختلف العمليات المسلحة التي تورط فيها الاتحاد الروسي.

وضع المرتزقة والقوات الأجنبية القانوني موضوعٌ اليوم على طاولة مناقشات تحسمها اللجنة العسكرية (5 + 5) الطرف الممثل لميليشيا الجيش الليبي المُسمى من البرلمان ذو الشرعية الباهتة الذي استدعى مرتزقة فاغنر غير القانونية، للأعتداء على العاصمة طرابلس، والطرف الممثل لميليشيات حكومة الوفاق المعترف بها من قبل المجتمع الدولي التي وقعت اتفاقية بحرية مع تركيا، ودافعت عن العاصمة مضطرة أن تلحق الاتفاقية البحرية بأن تستدعى قوة عسكرية نظامية وربما رديفة لها باسم الجيش التركي. حكومة الوفاق ألغتها حكومة الوحدة الوطنية، فالضباط الخمسة في اللجنة صاروا يتبعون الحكومة التالية. السؤال: مامصير تبعية الضباط الـ 5 الذين يتبعون مسمى الجيش الليبي، الذي صرّح قائده أن لايسلمه إلا إلى حكومة مفترض انتخابها في 24 ديسمبر 2021 .

اللجنة العسكرية المشتركة (5+5)، تفويتا للوقت إلى أن يتضح مصير الجيش الليبي المزعوم، والمُسمى قائده، كررت في اجتماعها الثلاثاء 16 مارس 2021، مطالبتها مجلس الأمن الدولي والدول المتابعة لمخرجات مؤتمر برلين بـ "إلزام الدول التي يتبعها المرتزقة والمقاتلون الأجانب بسحبهم فورًا من الأراضي الليبية".
مطلب ليبيا مابعد الميليشيات سيؤَجل البت فيه، قبل حسم البلدان الراعية لمخرجات مؤتمر برلين لمصير ليبيا مابعد المرتزقة !