Atwasat

خطوط الرمال (1)

سالم الكبتي الأربعاء 17 مارس 2021, 09:57 صباحا
سالم الكبتي

دقات طبول الحرب التي لم تقع ترددها الصحراء. أناشيد وتهديدات متواصلة عبر الإذاعة من الجار الكبير للإمارة الصغيرة التي أضحت دولة مستقلة. انفكت عن حماية بريطانيا في يونيو 1961. والأغنية الأثيرة تتوالى من هناك عند شط دجلة (السبت في الكويت). عز الصيف والقيظ في تلك الأبعاد. والغريب على الخليج ينتظر في حزن على الضفاف.. يخاطب الماء والمحار واللؤلؤ. يغرق الخطاب في اللجة الممتدة دون صدى أو جواب أو قرار. والنخل يتمايل سعفه في الظهيرة.. وعطش في الديار. العراق والكويت.

فما الذي حصل؟
ثمة أحلام قديمة عند الجار القوي ظلت تقوى مع الأيام. تخفت ثم تنهض وتكبر. ومع الخفوت والنهوض قلق وانتظار للقادم المجهول. الأحلام تتحدد في أن البقعة الصغيرة المجاورة هي أرض عراقية منذ الأزل. تنازل عنها العثمانيون بعد أن كانت من أملاك البصرة وضمتها لاحقا الحماية البريطانية.

ماحدث في الخيال العراقي لم يعجب الآخرين. الملك غازي راوده الحلم في الثلاثينيات الماضية وأطلق صيحاته المتكررة من إذاعته في قصر الزهور. وكذا عند الباشا نوري السعيد الذي اشتهر ذات يوم بأنه من دعاة القومية والوحدة العربية. واشتدت كثيرا عند البعثي طالب شبيب الذي غدا يردد بأن المطالب التاريخية في الكويت لن تفتر!

وكان الصيف قائظا. وخطوط الرمل تتوهج تحت الشمس. ومياه الخليج تموجاتها تلمع تحت القمر في الليالي الساهرة. والخطاب يعلو من الإذاعة والمظاهرات والصحف. عبدالكريم قاسم أدلى بدلوه منذ البداية. لم يرق له أن تستقل الجارة. أعلن في مؤتمره الصحفي الذي عقده تلك الأيام في ثكنته بوزارة الدفاع أن العراق تتبعه الكويت ومن الخطأ أن يمنحها (الإمبرياليون والمستعمرون) الاستقلال. ثم من الخطأ الفاحش أن تصير عضوا في الجامعة العربية وتتقدم بخطواتها نحو الأمم المتحدة والعراق يتفرج. تحسس مسدسه وأشار في خطوة أخرى مضحكة بأن أمير الجارة الصغيرة خفضت رتبته وأضحى مجرد قائمقام لمحافظة الكويت!.

الأمير والشارع في الكويت أخذا كل ذلك على محمل الجد. لا وقت للمزاح. الأمير يعرف أيضا أن الأشقاء العرب لايستطيعون القيام بأي تحرك سوى التصريحات والنوايا الطيبة. كل شئ بيد الغرب البعيد الذي ماتزال آثاره باقية. صراع المصالح وتشابكاتها في المنطقة منذ القديم.. صراع يمتد ويتجدد. إنه حرب خطوط الرمال والبترول. لم يكن على أسراب الظباء أو عيون المها. كانت بريطانيا لديها مصالح وبعض النفوذ في المنطقة. عدن ومناطق محاذية.

تقول الوثائق: (انسحبت بريطانيا من الحالة القديمة لكنها بعد الحرب العالمية الثانية ظلت تعبر عن إعادة صياغة أخرى للعلاقات الاستعمارية والمصالح القديمة في المنطقة) إمبراطورية غير رسمية تعود. هكذا تشير تقارير مخبريها وسفاراتها وخارجيتها والمقر الذي يحمل الرقم العاشر في داوننغ ستريت. وإن الأمر ليغدو أكثر وضوحا في كلمات مفادها: (إن بقعة رملية يبلغ دخلها 170 مليون جنيه استرليني سنويا هي غنيمة مغرية يصعب مقاومة الطمع بها!). إنها التقارير البريطانية عن الكويت عام 1961. وهي في الوقت عينه تقارير تشمل المنطقة كلها بعنايتها.. وسطورها. ولهذا لم تتأخر بريطانيا في محاولة التعويض عما حدث لها في قناة السويس وبور سعيد منذ خمس سنوات مضت (1956). ثم أرسلت بقواتها التي كان قوامها سبعة آلاف جندي بأسلحتهم. قدموا من عدن وقبرص وكينيا. قروا بالكويت حماية ودفاعا عن الدولة الصغيرة فيما قال العراق بأن نواياه سليمة ولا يفكر في الغزو أو الضم بالقوة. كان الأمير أبدى حسن النوايا والكثير من الصبر. زار بغداد في نوفمبر 1958 بعد تموز الشهير والتقى القائد الجديد وتصافحا. ومضت الأمور تتجه نحو الأفضل ولم يكن فيها مايعكر الأجواء. غير أن الحلم عند الجار الكبير ظل يتسع ويخترق الآفاق. يطلع من (بيت أبوه لكي يروح لبيت الجيران)!!

كانت الجارة الصغيرة حتى قبل انفكاك الحماية البريطانية تشعر بالإحساس القومي والتعاطف مع إخوتها منذ فترات. كان من أبرز مؤسسي حركة القوميين العرب في بيروت رجل منها هو د. أحمد الخطيب. وكانت منذ القدم نقطة انطلاق وعبور القوافل البحرية وشرعت تتلمس خطواتها نحو الحداثة والتقارب مع العالم القريب والبعيد. وتكفلت بالكثير من المساعدات للأشقاء. ثم التهبت المنطقة في الصيف كالعادة. دائما تسخن في أيامه. واشتعلت التصريحات. الإذاعات والبيانات والأغاني والأناشيد. مظاهرات في العراق كله تؤيد (المطلب التاريخي) والحق في (أرض الكويت). ثقافة الغزو والغنيمة التي سيطرت على العقول وأضحت لازمة وسببت في الكثير من المشاكل والتباعد والأزمات. ثقافة مفادها.. لابد من الضم وإن طال السفر القريب في يونيو1961!!