Atwasat

آكلة اللوتس والمدن الدول

سالم العوكلي الثلاثاء 16 مارس 2021, 11:30 صباحا
سالم العوكلي

قبل ظهور المدينة العاصمة للدولة (الكابيتال) ظهر في تاريخ التجمعات البشرية ما يعرف بالمدينة الدولة أو دولة المدينة (Polis) والتي تمثل نظاما أو كيانا سياسيا من خلال مدينة واحدة مستقلة تنحصر فيها السيادة والعصبية بمواطنيها، وإن توسعت هذه السيادة لتشمل ما يتبع سلطة المدينة من أقاليم أو مستعمرات، ما أدى ببعض الإمبراطوريات الكبرى إلى أن تسمى بمدينة مركزية تتمتع بهذا السلطان نتيجة لقوى اقتصادية وعسكرية واجتماعية تتضافر كي تجعل منها كيانا يجمع كل مقومات الدولة. ومن جانب آخر، ثمة جذور لمثل هذه النظم نشأت عن التمركز حول المرافئ أو المدن التجارية التي تتمتع بأسباب حماية ذاتية أو جغرافية، ولها القدرة على التمدد أو السيطرة على الطرق التجارية، ومن أشهرها المدن الفينيقية، أو المدن اليونانية، أو المدن التي نشأت على طريق الحرير التي تحولت فيما بعد إلى دول قومية.

يُذكر في قاموس كيمبريدج للفلسفة في مدخله الخاص بمفهوم المدينة/ الدولة عدة نماذج من التاريخ القديم: "شملت دول المدن التاريخية المدن السومرية مثل الوركاء وأور؛ ودول المدن المصرية القديمة مثل طيبة وممفيس؛ المدن الفينيقية (مثل صور وصيدا)؛ الدول الخمس لمدن الفلستيون؛ دول مدينة البربر من جرمنتيون؛ دول مدن اليونان القديمة (البوليس مثل أثينا، سبارتا، طيبة، وكورنثوس)؛ الجمهورية الرومانية (التي نمت من دولة مدينة إلى قوة عظمى)؛ حضارة المايا وغيرها من ثقافات أمريكا الوسطى عصر ما قبل كولومبوس (بما في ذلك مدن مثل تشيتشن إيتزا وتيكال وكوبان ومون ألبان)؛ مدن آسيا الوسطى على طول طريق الحرير؛ دول مدينة ساحل السواحيلية؛ مدينة البندقية؛ رغوس. دول الأراضي الروسية في العصور الوسطى مثل نوفغورود وبسكوف؛ وغيرها الكثير. وصنف المؤرخ الدنماركي بول هولم مدن الفايكنج الاستعمارية في أيرلندا في العصور الوسطى، وأهمها دبلن، كدول مدن.".

كما توصف المدن؛ التي تمتعت لأسباب عدة بسيادة الدول، بأنها نوع من البلدان الصغيرة المستقلة التي تتشكل من مدينة واحدة وأراض تابعة، مثل روما وأثينا وقرطاج أو دول المدن الإيطالية خلال عصر النهضة، وحاليا يمكن العثور على هذا المظهر السياسي والاقتصادي في مدن مثل سنغافورا أو موناكو او الفاتيكان. ومن خصائص هذا النوع من النظم السياسية إسهامه في نموّ شكل من أشكال الديمقراطية المباشرة "بتمكينه مواطني المدينة الأحرار من الاجتماع في ساحة المدينة، والمشاركة في مناقشة القضايا المطروحة، واتخاذ القرارات وتشريع القوانين، وذلك لصغر حجم دولة المدينة من جهة، وقلة كثافتها السكانيّة من جهة أخرى".

تشترك عدد من الدول الصغيرة الأخرى في خصائص مشابهة، ولذلك يُشار إليها أحيانًا باسم دول المدينة الحديثة، مثل، قطر، بروناي، الكويت، البحرين، ومالطا؛ التي لكل منها مركز حضري يتألف من نسبة كبيرة من السكان، على الرغم من أن جميع هذه المدن بحكم الأمر الواقع لديها عاصمة. في بعض الأحيان، يتم الاستشهاد أيضًا بدول صغيرة أخرى ذات كثافة سكانية عالية، مثل سان مارينو، على الرغم من عدم وجود مركز حضري كبير مميز مثل بقية الدول المدن التقليدية.

كما تتمتع العديد من المدن غير السيادية بدرجة عالية من الاستقلالية، وتعتبر في بعض الأحيان دولًا مدينة، وغالباً ما يشار إلى هونغ كونغ وماكاو، إلى جانب الأعضاء المستقلين في دولة الإمارات العربية المتحدة، وأبرزهم دبي وأبوظبي، على هذا النحو.

كانت برلين الغربية -على الرغم من افتقارها للسيادة- في القرن العشرين، تعمل منذ عام 1948 حتى عام 1990 كدولة لا تنتمي قانونًا إلى أي دولة أخرى، ولكن يحكمها الحلفاء الغربيون، وعلى الرغم من احتفاظ برلين الغربية بعلاقات وثيقة مع جمهورية ألمانيا الاتحادية الألمانية الغربية، لكنها لم تكن من الناحية القانونية جزءًا منها. كما تأتي تاريخيا مدينة طنجة في هذا السياق حيث استمرت محمية فرنسية إسبانية من عام 1923 إلى أن دُمجت ضمن الدولة المغربية العام 1956.

في الكيان الليبي شهدت الكثير من المدن المركز على مر التاريخ هذا النوع من السيادة ومن قيادة المحيط الجغرافي، وارتبطت بحضارات مرت بالشواطيء الليبية عبر التوسع الاستيطاني، أو عبر مد الطرق التجارية. فقد بدأ اتصال الفينيقيين بسواحل شمال أفريقيا منذ فترة مبكرة حيث سيطروا على البحر المتوسط واحتكروا تجارته، فكانت سفنهم ترسو على الشواطئ الليبية للتزود بما تحتاج إليه أثناء رحلاتها البحرية الطويلة، وأسسوا بعض المدن المهمة كطرابلس ولبدة، وصبراته، وكانت أهم طرق القوافل تخرج من مدينة جرمة التي كانت مركزا هاما لمنتجات أواسط إفريقيا التي كانت تنقلها القوافل عبر الصحراء إلى المراكز الساحلية، واستمر الجرمانتيون مسيطرين على سوق التجارة بليبيا أكثر من ألف سنة، وعندما انتصرت روما على قرطاجة أخضع الرومان كل ممتلكات قرطاجة بما فيها المدن الليبية الثلاث طرابلس ولبدة وصبراتة لسلطتهم. أما السواحل الشرقية من ليبيا (برقة - قورينائية)، فكانت من نصيب المستعمرين الاغريق الذين أنشأواعلى ساحل برقة المواجهة لبلادهم مدينة قوريني (شحات)، ومع ازدياد عدد المهاجرين، ترك بعض الإغريق مدينة قوريني ليؤسسوا مع الليبيين مدينة برقة (المرج) وتوخيرا (توكره)، ويوهسيبريديس (بنغازي). وكما كان لقوريني ميناء خاص بها هو أبولونيا (سوسة)، فإن مدينة برقة هي الأخرى أنشأت ميناء لها في موقع بطليموس (طلميثة). وفي عصر البطالمة أصبحت مدن الإقليم تعرف جميعا باسم بنتابوليس، أي أرض المدن الخمس حيث تُكون اتحادا إقليميا يضمها ويتمتع بالاستقلال الداخلي. وبقيت قورينائية تحت الحكم البطلمي حتى تنازل عنها لروما سنة (96 ق.م.).

وعلى تخوم هذه الدول المدن التي كانت تنشأ على الشواطيء الليبية، كانت القبائل الليبية التي لم يتوقف صراعها وحروبها مع هذه المدن تعيش في الدواخل، بينما ظل الشاطيء الليبي الطويل بوابة الغزوات والاستيطان المتوالي وصولا إلى إعلانه في بداية القرن العشرين كشاطيء رابع لإيطاليا التي غزت ليبيا محمولة على إرثها الروماني القديم. تلاشت معظم المدن أو تراجعت واضمحل دورها كمدن ميتروبولية ولم تبق إلا طرابلس كمدينة دولة تركزت فيها عبر حقب طويلة المؤسسات السياسية والإدارية لكل السلطات الأجنبية والمحلية التي سيطرت على إقليم ليبيا، غير أن منازعة طرابلس لم تتوقف كلما سنحت ظروف لهذه المنازعة، وكثيرا ما أدى هذا الصراع إلى ظهور الأقاليم النازعة إلى الانفصال، وإلى هواجس التهميش ورهاب المركزية، وإلى صراع مازلنا نشهده حول حظوة العاصمة. ففي الحقبة الملكية دخلت مدينة البيضاء حلبة المنافسة على هذه الحظوة لأسباب روحية تتعلق بأول زاوية للسنوسية أنشئت في ليبيا، ومع أفول هذه الدولة دخلت مدينة سرت الصراع لأسباب تتعلق بأسباب قبلية وجغرافية، بينما بعد سقوط النظام دخلت مدينة مصراتة على الخط بقوة لتقوم بدور المدينة الدولة أو دولة المدينة اعتمادا على قوة اقتصادية وعسكرية.

على مدى التاريخ عاشت هذه المدن، ومدن اختفت، ومدن وارثة، سجالا حضاريا في بحر الرمال، أو "صندق الرمال" كما سمى هيرودوت ليبيا، التي تشكلت حواضرها من مدن معزولة كثيرا ما كانت تتعرض لهجمات القبائل الليبية من خارج حدودها الإدارية، أو الليبيين الذين سماهم أيضا هيرودوت "آكلة اللوتس" التي يصفها بالثمار اللذيذة التي يشبه مذاقها مذاق الرطب حيث كانوا يصنعون منها الخمر، ويشير هوميروس في ملحمته الأوديسة إلى أن من يأكل اللوتس يصرفه عن الاهتمام برؤية وطنه وزوجته وأولاده.