Atwasat

وتوحد الواحد في الكل

محمد عقيلة العمامي الإثنين 15 مارس 2021, 10:36 صباحا
محمد عقيلة العمامي

لا أذكر أبدأ أنني أمضيت، بإرادتي، يوما كاملا بين أربعة جدران بمفردي، سوى مرة واحدة سُجنت فيها لمدة عشرة أيام، في زنزانة بالكاد تأخذني مستلقيا، ولكنها مرت سريعا بسبب انشغالي باسترجاع ما قد يكون سببا في سجني هذا، كانت أياما مُقلقة جدا، وبسببها أحسست بعذابات السُجناء، مهما كانت أسباب سجنهم، فأيقنت حينها أن السجن عقوبة بشعة، وعندما يكون انفراديا يصبح قذرا حد القبح.

ولكنْ قلق وحيرة، تسلطتا عليَّ، وكأن روحي مسجونة، حينما أمضيت اليومين الماضيين مسجونا في بيتي! بلا سجان ولا سبب فُرض عليّ هذا السجن، وإنما بسبب مشهد ظللتُ أترقبه لسنوات، عندما تلتقي زوجتي بأطفالها الذين حُرمتْ من عناقهم لأكثر من سبع سنوات، دون أن يغيبوا عنها طوال الليل والنهار، لا في صحوها، ولا في منامها أيضا. إن شاهدت ما يبهجها، تأسفت لأنهم لا يشاركونها هذه البهجة، وإن صادفت ما يحزنها تصورت حالهم عندما يغمرهم حزن لسبب ما. ظلت حالة متسلطة على روحها، ورؤيتها ورؤاها. وطوال مدة هذا الغياب، تعمدت ألاّ أغيب عنها سوى ساعات، لضرورة حياتيه.

خلال إجازة قصيرة، منذ سنوات مضت، قضيتها مع شقيقتي وصهري ونجلها وأحفادها، وبينما كنت منشغلا بكتابة شيء ما، كانت زوجتي تشاهدهم من شرفة غرفتنا وهم يسبحون، سمعتها تقول بحرقة، لسعت وجداني: " يا رب.. يا رب.. يوم معهم كهذا اليوم". وظللت أنا أيضا، أحلم معها بهذا اليوم.

جاء أولادها، وذهبوا يومين لذات المكان، وتعمدت بإصرار ألاّ أرافقهم، لا لأنني لا أرغب في ذلك، وإنما بسبب هاتف يأمرني ألاّ أذهب معهم، إذ الأفضل أن يحققوا أمنيتهم، ويُبللوا من اشتياقهم، وحاولوا كثيرا إقناعي بمرافقتهم، ولكنني لم أستجب لهم! الغريب أنهم بمجرد أن نزلوا المسبح، شاهدتهم من شرفتها، هاتفتني لتخبرني بسعادتها، وهم يسبحون أمامها. لم أشأ أن اُذكرها بذلك اليوم الذي استنجدت فيه بالله العظيم، فلم يخذلها.

يومان فقط، ولكنهما كئيبان للغاية، لم أغادر فيهما بيتي من دون سبب يُذكر، فلقد تسلطت علىّ حالة تأمل في ظلم الإنسان للإنسان، فالظلم وقع عليها لا لشيء إلَّا لأنها تريد أن تستعيد حياتها، أن تنفذ أحلاما كانت تتطلع إليها منذ أن ازدحم محيطها بالشهادات العليا، ولكنهم وقفوا في طريقها. وحاولتُ تفسير ما كان يعتمل في صدري، ولكنني لم أجد المبرر المقنع، تماما مثلما لم أجد مبررا لعدم مغادرة بيتي خلال اليومين الماضيين.

وفيما كنت أطالع مقالا للطبيب وعالم الدين والموسيقي، وفوق ذلك الفيلسوف، الحاصل عام 1952 على جائزة نوبل للسلام لفلسفته عن تقديس الحياة، وهو (ألبرت شايتزر). الذي يعد تأسيس وإدارة مستشفى في - الغابون- في غرب وسط أفريقيا، من أعظم وأشهر أعماله.

مقالته تتناول احترام الحياة، وأن الإنسان بمقدوره أن يعيش كيفما شاء، وفق ما يريد، ولكنه سيكون أكثر سعادة عندما يعي أن الأخلاق الحقيقية، تزدهر عند المرء عندما يحس بتضامنه مع البشرية كافة، عندما يعمل بقناعة وإخلاص على أن يكون جزءا منهم، ينظر إليهم بعيونهم، وليس مجرد مراقب متعاطف معهم.

وبيّن أن التضامن في البداية يتأسس مع علائق الدم العائلية، ثم القبيلة، ولكن إن وقفت العلاقات عند مستوى القبيلة فقط، يكون المرء قد ضيق حياته، من دون داع، لأن الإنسانية أكبر من ذلك بكثير، ولعل إعلان القرآن بأن أرض الله واسعة، وأن الدعوة للهجرة فيها، تؤكدان هذه الحقيقية، وهي أن الإنسان جزء من الإنسانية كلها، وأن الإنسانية لا تفرق بين الذكور والإناث. وكون الرجال قوامين على النساء لا يعني أن يُستعبدوهن، ولا يمنع أبدا ألَّا ينظروا إليهن بعيونهن، وليس بعيون من يتقولون عليهن.

ويواصل هذا الفيلسوف تفسيره، ويرى أن المرء ما إن يأخذه التفكير حتى يدرك أن دائرة مسئولياته تتسع حتى تشمل البشرية التي يتعامل معها كافة، فالإنسان جدير بالإنسان، وأن التعامل والتواصل مع شركائه في الإنسانية يوسع انتماءه ويزيده غنى وثراء في عاطفة لا تُشترى بمال. وينصح أن يفتح المرء عينيه، ويبحث عن إنسان آخر ويمنحه قليلا من الوقت، فقد يكون يحتاج إلى من ينصت إليه فقط، وينصح أنه ينبغي علينا تجديد العلاقات الروحية، التي تربطنا بالبشرية كافة، فنحن جزء منها، وعليه أن يعي أنه هو مركزها. والبسطاء من أبائنا قالوا: "الناس بالناس، والناس بالله" ولعل كلمات الشاعر عبد الوهاب البياتي تصف ببلاغة هذا الربط عندما قال:
"توحَد الواحد في الكل ..
والظل في الظل ..
وولد العالم من بعدي ومن قبلي ".

وهذا ما عبر عنه خليفة الفاخري، في قصته "طين البحر":
" البيت هو البحر. بالضبط، هو البحر. فبمجرد أن تضع قدميك في مياهه وتشعر بطريقة ما، أن أحدا آخر يضع قدميه في الطرف الآخر، تشعر بالرحيل، بالاتصال بالناس. إنني أصافحهم الآن بقدمي. أنا لا أبرح مكاني. إني فقط أرنو إلى ضفة الشاطئ. أنظر إلى النوارس السابحة في السماء، والجاثمة على الصخور الناتئة. إلى الأصداف الملقاة على الرمل الندي، وبريق الحصى الملون. أنظر إلى الناس الذين يعتقدون أنهم يقضون- فحسب-وقتا جيدا، إنهم لا يعرفون أي فردوس أمامهم. أنا وحدي أعرف ذلك "...

ذلك الفردوس هو " الإنسانية " التي أنت جزءامنها؛ أنت هو الفرد الواحد، الذي توحد مع فردوس الإنسانية كلها. يوم أن تعي ذلك فتلك هي الشهادة بأنك إنسان حقيقي، والإنسانية كلمة واسعة المعنى والمدلول، وأبسط قدراتها هي معجزة الربط بين القلوب، وإن تباعدت المسافات.