Atwasat

قائع سنوات فبراير(4-4)

أحمد الفيتوري الثلاثاء 09 مارس 2021, 10:59 صباحا
أحمد الفيتوري

أما بعد
عند تحقق الهدف تظهر الغنيمة على الطاولة، هكذا يوم 20 أغسطس 2011م سقطت العاصمة في يد الثوار، من قال بعضهم أنه حرر طرابلس، رغم أنه في الأيام الأولى بعد صدور قرار مجلس الأمن 1973، أطلقت البواخر الحربية الأمريكية عشرات صواريخ التوما هوك، على قوات القذافي بالمدينة وغيرها، هذا غير ما فعلت طائرات التحالف الدولي وسفن الناتو مركز التحالف، ورغم ذلك فإن الليبيين شبه عزل واجهوا على الأرض، كتائب القذافي الأمنية المدججة بالسلاح، وقدموا مئات الأرواح والآلاف من الجرحى... دخل الثوار العاصمة والجميع من كل فج يدخلها، وجاءها مستعجلا المجلس الوطني الانتقالي، الذى رمى على مقره في بنغازي، قنبلة يدوية تلك الأيام بعد إعلان التحرير، وكانت مظاهرات في ميادين بنغازي قد خرجت ضد المجلس وأعضائه.

قوى ليست ظاهرة، تدفع أن يهج الجميع عن عاصمة الثورة بنغازي، نحو عاصمة البلاد طرابلس، مقر البنك الوطني المركزي بنك ليبيا، ومظاهرات تعم البلاد، تطالب بتعويض الجرحى والشهداء، حيث ظهر هتاف (دم الشهداء ما يمشيش هباء)، مما يعني المقابل المادي والسريع: الفيء والغنيمة ثقافة الغزو، ما تحمل الجماعة الإسلامية، يعلو فوق الجميع كما مطلب الدولة الإسلامية.

كعكة فبراير بدأت القوى الجاذبة إلى العاصمة، كعكة فبراير القوى الدافعة إلى الاقتتال، الغنيمة ظهرت في طرابلس العاصمة، وتجسمت في عراك حول البنك المركزي. في هذا الوقت هج الجميع عن عاصمة الثورة، ما وصمت بأنها عاصمة الفيدراليين، من اعتبروا بين ليلة وضحاها قوى عظمى تسيطر على شرق ليبيا، وقد تم حشد تظاهرة ضد الفيدرالية في مدينة بنغازي، شارك فيها تقريبا كل سكان المدينة، وبدا عندئذ أن الفيدرالية كذبة تموه قوى أخرى، كانتا في الحقيقة أخذتا في الهيمنة على المدينة، وفي المنطقة دون لفت الأنظار، منها جماعات إسلامية متطرفة كـ (أنصار الشريعة).

لحظتها برز تشتت القوى الوطنية، وجنوح أفواج منها وتدافعها من أجل حصة في كعكة فبراير، كان أهم ما تمظهر عقب انتصار الثورة، وبالتالي برز تداعك على الغنيمة، ما أدى إلى صراع وعراك بين الأصدقاء وبينهم والخصوم، ومما تجلي عنه: الحرص على الفوز بالمناصب للأخ والقريب، واقتناص الفرصة من أجل حصول الأبناء على منح للدراسة في الخارج، وعلى وظائف دبلوماسية في السفارات... وهلم جرا، حدث هذا أثناء الإعداد لأول انتخابات تجرى في البلاد.

نجح الليبيون، كما لم ينجح غيرهم من دول الربيع العربي، بفوز القوى المدنية الديمقراطية، بينما فاز الإخوان في كل من الجارتين مصر وتونس، حدث هذا كما لم يتوقع الكثيرون: أن يكون صندوق الاقتراع يوم 7/7/ 2012م في ليبيا رفضا لتحزب الدين وتسييسه. أما دوافع ذلك فكثيرة: منها أن في ليبيا القرآن شريعة المجتمع، الخمر ممنوعة، الدولة مغلقة والمجتمع في عزلة، والقائد المعلم والمفكر الثائر إمام المسلمين العقيد معمر القذافي. وما حدث في انتخابات المؤتمر الوطني 2012م، حدث تقريبا في انتخابات مجلس النواب 2014م، وقبلها انتخابات لجنة الستين لإعداد الدستور.

نتائج الانتخابات ونجاحها غير المتوقع، مما ساهم في تصعيد روح الحرب، من قبل الأطراف الخاسرة، بدعم إقليمي ودولي، خاصة وأن لا أحد تقريبا يقبل التغيير الجذري في المنطقة، من هذا تسارع التكالب على الربيع العربي، ما فاجأ حتى أجهزة المخابرات والمختصين في المنطقة.

هكذا تحولت عاصمة الثورة إلى مدينة أشباح، بعد أن غادرها كل من شارك أو ادعى أنه شارك في الثورة، وانتشرت الاغتيالات في المدينة، لرجال القضاء والشرطة والجيش والصحافة، دون أن يعلن الفاعل عن نفسه. الاغتيالات تمت بتلغيم سيارات، وبإطلاق الرصاص جهارا نهارا، حتى ذهب أطفال ضحية مذبحة الاغتيالات في بنغازي. ثم في مدينة درنة، التي استولي عليها متطرفون إسلاميون كجماعة أنصار الشريعة، ما تحصل على دعم محلي من الإخوان، من يحصلون على دعم إقليمي، من جماعتهم التي تبوأت السلطة في تونس ومصر والسودان وشركاء في الجزائر، وكان التحالف الدولي، الذي ساهم في إسقاط القذافي، قد انسحب عسكريا، تاركا الليبيين العزل يواجهون مصيرهم، يواجهون آثار الحرب، هكذا تم تجهيز مسرح الحرب الأهلية وازدهار الخراب.

بذا تزوج الخوف الفساد، فتصدعت روح الثورة، التي بدأت في عهدها البلاد والعباد، في حال أسوأ مما ثاروا عليه، وكأنما من لزوم ما يلزم الارتداد عن التغيير الأكبر، وأنه من فطرة البشر، واستعادة التاريخ: فالمسلمون غب موت النبي الأعظم ارتدوا عن دينهم!. ولقد بدأ من أوصلتهم ثورة فبراير إلى السلطة الانكفاء عليها، وساهموا في تفاقم الانشقاق والتشظى، وانغمسوا في فساد معلن، رصدته الجهات الرقابية، وكورثة للقذافي أخلصوا في تنفيذ نظريته ضد الدولة..

ما بين عام 2011 و2014 احتدم الصراع على السلطة، بالاستحواذ على سلاح كتائب القذافي، وضم الكتائب نفسها الي ورثته، الغنيمة بشكل مركزي سقطت في يد ميلشيات إسلامية، ومليشيات أخرى في مدينة مصراته، التي شكلت ما عرف بـتحالف فجر ليبيا. قام التحالف بالسيطرة على العاصمة، في حروب صغيرة توجها بما عرف بحرب المطار، المعركة الحاسمة التي بأثرها استحوذ على بنك ليبيا المركزي، وقد جاء ذلك أثناء انتخابات مجلس النواب التي رفض الاعتراف بنتائجها. وفي أكتوبر من نفس العام، أعلن اللواء خليفة حفتر في بنغازي عملية الكرامة، التي أعلن مجلس النواب المنعقد في طبرق الاعتراف بها، كعملية عسكرية لمواجهة الإرهاب. وبهذا انتهى عام 2014 م وقد نتج انقسام في ليبيا، بين تحالف فجر ليبيا في الغرب ومجلس النواب وعملية الكرامة في الشرق. وفي هذه السنوات انتشر الإرهاب في الشرق، والهجرة في الجنوب، والتقاتل بين مليشيات فجر ليبيا في الغرب.

الاعتراف الدولي والإقليمي، الذي حصل عليه مجلس النواب برئاسة عقيلة صالح، لم ينجح إلا في عقد لقاءات دولية، قادها مبعوث الأم المتحدة "ليون"، ما نتج عنها اتفاق "الصخيرات"، وقد حمل اسم المدينة المغربية التي عقد فيها، أعلن الاتفاق في ديسمبر 2015م، لكن منذها حتى يناير 2019م، بدل أن يحقق الوفاق لبْ الاتفاق، حقق الاعتراف فحسب. لقد نتج عن اتفاق الصخيرات مجلس رئاسة، وهذا ما تبقى من الاتفاق، ومن مجلس الرئاسة تبقي رئيس المجلس فائز السراج، ومجلس دولة وظيفته حسبما الاتفاق استشارية، لكنه بات قوة سياسية، لقد نال مجلس الرئاسة الاعتراف الدولي والإقليمي ليس إلا.

لقد ظهر تشرذم الدولة بشكل ساطع، في مجالات عدة، لكن النفط كان الموحد، حتى إن المنطقة الرئيسة للنفط الليبي، المعروفة بمثلث النفط، لم تتحول إلى مثلث برمودا، وإن دارت حولها معارك عسكرية وقتال، لكنه كان محدودا ضد قوة إرهابية معزولة، ويبدو وكأن مسألة النفط الليبية خلال الصراع ، مثيرة للعراك في الخارج أكثر منها مسألة داخلية.

بعد ديسمبر 2015م، تمت حلحلة المسألة الليبية، بعقد مؤتمر في باريس وآخر في باليرمو، لكن هذا أبرز أن المسألة الليبية، باتت محل تنافس بين الدولتين اللاتينيتين فرنسا وإيطاليا، وإذا كان مقتل السفيرالأمريكي في بنغازي قد جعل ليبيا عند أمريكا مسألة إرهاب، فإنها في باريس وروما أمست قضية داخلية، من حيث إن الشعبوية السياسية الإيطالية، تستخدم ليبيا في حربها ضد ماكرون واليمين الوسط الأوروبي. فيما كانت مسألة المسائل الدولية في ليبيا، الإرهاب والهجرة، ما فاقمتا الوضع واستنفدتا الجهد والوقت والمال، لكن الأبرز أنهما جعلتا ليبيا على الطاولة، وتضافرتا مع الخوف والفساد ما شكل المربع الأمني الليبي.

المربع الليبي في منطقة الربيع العربي، منذ البدء كان الاستثناء، وحافظ على هذا رغم المشتركات القوية بينه وبين ما حدث في دول الربيع العربي. ليبيا الدولة الاستثناء، من حيث أنها الدولة النفطية، والدولة التي ساهم تدخل دولي، بإجماع غير مسبوق في دعم ثورتها، وكذا الدولة التي خاضت حربا، لكن أيضا خاضت انتخابات مفارقة!. هذه اللحظة الاستثنائية الليبية، جعلت ليبيا على الطاولة، فرأى الكثير من المراقبين والمحللين السياسيين، قابليتها للحلّ، قبل غيرها من المسائل المماثلة، بل إن مسئولين دوليين وإقليميين، يعتقدون أن حال ليبيا محلك سرَ، وأن وضعها معقول، وإن يكن غير جيد، وهذا أمر يعني أن الوضع تحت السيطرة.

المتابع يلاحظ تتابع مبعوثي الأمم المتحدة إلى ليبيا، مارتن، طارق، ليون، كوبلر، سلامة، كل يأتي مدججا بخارطة طريق، وفي الأثناء في ليبيا تعقد لقاءات ومصالحات، وفي أوروبا أولا ثم أفريقيا والدول العربية ثم في أمريكا، تعقد لقاءات حول المسألة الليبية، التي حتى الآن وما في الأفق، كأنها في حال: الحلّ اللا حل...
--------------------------------------------
• كتب هذا التقرير التحليلي، لبرنامج تلفزيوني لم يتحقق في أوائل سنة 2019م، قبل التحولات الرئيسة، التي حدثت في المسألة الليبية فيما بعد، ما يحتاج لمبحث خاص.