Atwasat

البرلمان البرلمان ودفشة ستيفاني

سالم العوكلي الثلاثاء 09 مارس 2021, 10:56 صباحا
سالم العوكلي

بغض النظر عن كل ما عايشناه من أجسام تمثل الدولة، أو مجتمع ما قبل الدولة في حقيقته، من حكومات ومجالس رئاسية أو غيرها، لا أحس في الواقع أني في دولة إلا عندما أشاهد جلسات البرلمان والنقاشات تحت القبة مهما كان حال هذا الجسم أو مستوى نقاشه، وبالتالي، بمجرد أن اانقسم هذا الجسم الشرعي واختفى من المشهد صرنا خارج مفهوم الدولة تماما، واستغلت أجسام أخرى هذا الفراغ لتعلن عن نفسها، وتدير بعيدا عن الشرعية ومسؤولياتها الأخلاقية مرحلة التشرح في الكيان الليبي، وتُفرخ بدورها أجساما أخرى في ظل سياسة الأمر الواقع.
تدعو لبعض التفاؤل مشاهدة جلسات مجلس النواب في مدينة سرت، لأنه يعكس ملمحا رئيسا للدولة في طريقها للديمقراطية حتى وإن كان المضمون غير مشبع لعطش الليبيين لهذه الدولة.

مبنى البرلمان والمسرح انبثقا معا من الأرض في فضاء العمران قبل أكثر من ألفي سنة على الضفاف الأخرى، ورغم آثار تلك الحضارات على أرضنا التي مازالت تحتفظ ببقايا هذه المباني الضخمة منذ قرن قبل الميلاد، إلا أننا لم نعرف محتواها السياسي إلا في القرن العشرين بعد الميلاد. وعلى ما أظن تزامن دخول البرلمان والمسرح إلى أرضنا وثقافتنا، وكلاهما في السياسة والفن يعكس حضور الناس المباشر في هذه الهيآت وتفاعلها معها. ربما وفق هذا المنشأ الجمالي تكتسب مشاهد الفرجة على مجالس النواب ومتابعة نقاشاتها نوعا من الحبور والمتعة، نفسها التي نعيشها في صالات المسارح التي تحولت مع الوقت إلى فضاءات لنقد للسلطة ومعارضتها، حين دخل المسرح السياسي قاموس هذا الفن، وتحول من دوره التطهيري إلى دوره التنويري.

بمجرد نهاية النظام السابق غدا حلم الليبيين أن يكونوا جزءا من هذا الجمال والاستحقاق السياسي، وتشوفوا الانتخابات بكل شوق، وحين بدأت شاركوا فيها بكل تحضر وغبطة، وفرحوا بأول جسم يمثلهم انتخبوه بكامل حريتهم (المؤتمر الوطني) الذي كان مقره في طرابلس، غير أنه، وللأسف، انحرف هذا الجسم عن مهامه فخذل الليبيين وتحول إلى مكان لتصفية الحسابات والانتقام، وغرفةِ عمليات لتمكين تيار متطفل على الوجدان والمزاج والوعي الليبي، وخرج عن دوره الرئيس المرتبط بحقل الجمال في السياسة إلى نوع من القبح الذي وصل ذروته حين حاصرته مئتا تابوت لتمرير قوانين وقرارات إقصائية وثأرية، وسيطر على هذا المنتج الديمقراطي تيارات دينية متطرفة لا تؤمن في عقيدتها الأصيلة بمبدأ الديمقراطية أو الدولة المدنية. لم يتعرض هذا الجسم لانقلاب عسكري من خارجه، أو اقتحام من محتجين مدنيين، لكن الانقلاب عليه وعلى مضمونه حدث من داخله، وعبر نواب منتخبين، مؤدلجين، ومرتبطين بميليشيات مسلحة تتدخل مباشرة حين يعجزون عن إقناع النواب بأجنداتهم الخاصة. حين انتهت فترة ولاية هذا الجسم الذي خذل وخدع الليبيين، وبدد فرحتهم الغامرة بالتغيير، سعى لأن يمدد لنفسه، لكن الشارع الذي مازال متمتعا بحيوية التغيير تظاهر ورفض التمديد، وبدأ العمل على التجهيز لانتخابات تشريعية ثانية وتفويض جسم جديد سمى هذه المرة (مجلس النواب)، ولأن الانحراف والإخفاق في المؤتمر الوطني أُرجِعت أسبابهما إلى الانقسامات الحزبية والأيديولوجية داخله، تقرر أن تكون الانتخابات هذه المرة فردية لمستقلين، وليست عبر نظام القوائم الحزبية بعد أن تنبه الليبيون للخدعة التي تعرضوا لها في التجربة السابقة، وما تمخض عنها من سيطرة تيار مخادع، تحصل على مقاعد قليلة، على المؤتمر الوطني، ليقصى عبر التحالفات والمال الفاسد والميليشيات المسلحة التيار الوطني الذي اختاره الليبيون بأغلبية كاسحة في انتخابات حرة ونزيهة، وجرت الانتخابات الثانية مع تراجع ملحوظ في نسبة الإقبال عليها وفي غياب الأحزاب التي تعتبر ركيزة من ركائز الديمقراطية، غير أن الظروف كانت مواتية لهذا التجاوز، وكان شاغل الليبيين بناء الدولة أولا، إضافة إلى عدم قناعتهم بالأحزاب الوهمية الموجودة على الأرض والتي كان إنشأؤها يشبه التشاركيات الاقتصادية إبان النظام السابق.

اختار مجلس النواب مضطرا مدينة طبرق في الشرق الليبي مقرا له لكي يبتعد عن ضغط الميليشيات والمجموعات المسلحة والقوى العسكرية التي مُكِّنت في كثير من المدن الليبية عبر المؤتمر الوطني ولجانه وحكوماته، وبسبب هذا الانتقال والبعد عن التأثير قوطع مجلس النواب من قبل الأعضاء التابعين لجماعة الإخوان المسلمين، ثم طُعن في شرعيته في الدائرة الدستورية بالمحكمة العليا التي حكمت مضطرة بعدم الشرعية ومقرها محاصر بالميليشيات، لكن المجتمع الدولي اعترف بمجلس النواب المنتخب غير ملتفت لهذه المسائل الشكلية بحكم درايته بالظروف القهرية المحيطة بالمحكمة وقضاتها، وحين فشلت كل هذه العراقيل كان الحل هو الاتقلاب المسلح عن طريق ما سمي حرب فجر ليبيا ومعاركها المتفرعة صوب الغرب والجنوب والشرق، وهي الحرب التي استطاعت فيما بعد ان تتسرب شظاياها داخل مجلس النواب، وتعيث فيه انقساما وخرابا، وتحيله إلى حلبة تكتلات متعصبة أدت في النهاية إلى أن تحيد به عن مهمته وتعطله عن العمل، حيث عجز في جلسات عديدة عن إكمال النصاب القانوني الذي لم يكتمل إلا في جلسة اعتماد المجلس الرئاسي المنبثق عن اتفاق الصخيرات، باعتبارها الإجراء الذي سيضمن تمديد صلاحية مجلس النواب الذي كان على أبواب انتهاء مدة ولايته وهذا ما حدث، وكانت تلك الجلسة أسوأ جلسات البرلمان، حيث انبثقت عنها شرعية دولية جديدة سميت حكومة الوفاق رغم أنها لا تمت للوفاق بصلة، وتحولت من جسم من المفترض ان يتمتع بالشرعية إلى جسم من أجسام الأمر الواقع، وأدخل البلد في متاهة وحروب مازلنا نعاني منها حتى الآن.

تظل من حسنات مجلس النواب، قبل خرابه، إلغاؤه لقانون العزل السياسي، وإصداره قانون العفو العام، غير أن انتعاش البيئة المعادية لمثل هذه المساعي التسامحية لم تتح فرصة لهذه القوانين كي تعمل على ارض الواقع، فقانون العزل السياسي تجاوزه الزمن حين تحول إلى قانون العزل الوجودي أو الحياتي عبر سيل من الاغتيالات التي لحقت به، وقانون العفو العام ظل مجرد حبر على ورق حتى الآن، ومع الوقت ومع زيادة أعداد أولياء الدم كانت فكرة العفو والمصالحة تبتعد وتصعب.

الآن يعود مجلس النواب للانعقاد بنصاب معقول في مدينة سرت، واستحقاقه الوحيد اعتماد الحكومة المنبثقة عن مؤتمر جنيف. ما لاحظته انخفاض حدة الخطاب والتوتر داخل جلساته دون أن يغيب التوجس من هذا الاتفاق الجديد ومخرجاته عند البعض، مع ميل لمجاراة ما يحدث عبر اقتراحات المجتمع الدولي ومندوبيته، بل أن الكثيرين عبروا عن عدم وضع العراقيل أمام هذه الحكومة رغم قولهم أنها حكومة ضعيفة او غير قادرة على إدارة هذه المرحلة الصعبة، غير أن هذا الميل يبدو أنه ناتج عن الرغبة في كسب شهور وربما سنوات أخرى في مناصبهم كنواب عاطلين عن العمل حين تخفق هذه الجكومة كما أخفقت سابقاتها، إضافة إلى الضغط الذي تفرضه الآلية التي وضعتها بعثة الأمم المتحدة، باعتبار إن فشل مجلس النواب في اعتمادها في الفترة المحددة سيعيد أمر اعتمادها إلى أعضاء ملتقى الحوار الذين انتخبوها، وهو ملتقى لحقته الشبهات بل التهم من ممثلين للمجتمع الدولي بتلقي بعض أعضائه الرشى حين تلاعب المال السياسي الفاسد بانتخابات جنيف. وفي هذه الحالة سيعود مجلس النواب إلى خرابه السابق، ويذهب كل عضو إلى بيته عاطلا عن العمل يتقاضى مرتبا يعادل مرتب أربعين عائلة ليبية متوسطة، وما همه صلحت ليبيا أم ذهبت إلى الجحيم طالما فرص التمديد في ظل الأمر الواقع قائمة.

الليبيون والأطراف المتصارعة وصلوا إلى مرحلة "السيارة موش عم تمشي .. بدنا حدا يدفشها دفشي"، وهم مستسلمون لخطة أو دفشة ستيفاني، غير أن ما يحدث من آلية لتشكيل الحكومة لا يدعو للتفاؤل، سواء عبر تدخل النواب فيها، أو في محاولة إرضائها لأكبر عدد من المستثمرين فيها بأكثر من ثلاثين حقيبة وزارية، قد يستغرق زمن تنظيمها وإيجاد المقرات لها نصف الزمن المحدد لهذه الحكومة.