Atwasat

ثورة بين النفط وطواحين الهواء

محمد طاهر الإثنين 08 مارس 2021, 03:06 صباحا
محمد طاهر

في مثل هذا التوقيت منذ ثمانية أعوام فقدت ما يمكن وصفها بـ "جبهة اليسار العالمية" قائدا بارزا تميز بصلابته وخطبه الحماسية ومناكفته التي لا تهدأ لـ"الإمبريالية"، علاوة على شعبية كبيرة تجاوزت حدود بلاده فنزويلا، الغنية بالنفط في محيط ثوري يغلي منذ عقود.

أوصل المد الثوري هوغو تشافيز إلى السلطة رئيسا منتخبا لبلاده فحمل لواء الثورة ووثق العلاقات مع كوبا ومع زعيمها فيدل كاسترو، وأقام الجسور مع الأنظمة الثورية الأخرى في العالم.

حاول تشافيز أن يجعل من بلاده قلعة ثورية ثانية مثل كوبا في محاولة لخروج أمريكا اللاتينية ذات التاريخ النضالي العريق من هيمنة الولايات المتحدة، فماذا كانت المحصلة؟

هوغو تشافيز كان على الأرجح مخلصا لكنه  كما في العادة في مثل هذه "التجارب الثورية    لم يترك بعد 14عاما قضاها في سدة الحكم، إلا لغة صاخبة وشعارات رنانة،  لم تفد أحدا بما في ذلك الفقراء الذين  جاء لأجلهم  وعلى أكتافهم..
كان الزعيم الفنزويلي الراحل نسخة  متوهجة" عن زعماء العالم الثالث الطموحين الذين يجمعون النقائض، فهم يريدون تنمية  سحرية عاجلة وعدالة  لا شائبة  بها ، وفي الوقت نفسه يشمرون عن سواعدهم  لمحاربة  الإمبريالية  والاستعمار الجديد والاستغلال دون أي استراتيجية معقولة أو فهم لموازين القوى ولقدرة الإمكانات الذاتية في مواجهة الخصوم.

وفي المحصلة يرحل هؤلاء الزعماء ويغادرون الدنيا بعد إفقار شعوبهم في معارك وهمية (دونكيخوتية) مع الإمبريالية التي يشترون منها كل شيء مقابل نفطهم..

لم ينتصر تشافيز على أحد، ترك وعودا رنانة لا يمكن تحقيقها وعواطف جياشة لبساطته وصدقه وتواضعه، إلا أن التاريخ لا يحكم على النوايا.. التاريخ يحكم على نتائج ظهرت للعيان. والمحصلة تأخر تقني أكبر.. انتشار للجريمة والفساد  بصورة مرعبة، علاوة على خدمات متعثرة في دول غنية سخر مقدراتها لدعم كوبا وشركائه اليساريين الآخرين، إضافة إلى ابتلاع الفساد وسوء الإدارة للقسم الأكبر من العائدات النفطية الضخمة.

ترك تشافيز في فنزويلا كما هائلا من الشعارات البراقة وشفى غليل الفقراء من بعض الإقطاعيين ومن إسبانيا ومن الولايات المتحدة.. لكن الجوع والتخلف ظلا يجثمان بأثقال متزايدة على أزقة وشوارع فنزويلا بعد غياب القائد الرمز حبيب الملايين.

لم يتسع الوقت لتشافيز للاقتداء بـ "المعجزة الكوبية"، ولم توات الظروف أيضا.

بالمقابل تمكنت كوبا بعد نضال عسير وطويل من إقامة دولة "ثورية" بمساعدة الاتحاد السوفيتي، لكنها أيضا نجحت في البناء الداخلي وأسست بنية تحتية قوية في دولة فقيرة خالية من الموارد الطبيعية مقارنة بفنزويلا.

النظام الثوري في كوبا لم ينشغل بمعاركه مع "الإمبريالية" عن مشاريع التنمية في المجالات الحساسة وخاصة التعليم والصحة.
يظهر ذلك جليا في المجال الصحي حيث أصبحت كوبا دولة مصدرة للأطباء وللخبرات في المجال الصحي، حتى إنها قدمت في أوج الأزمة في مواجهة وباء الفيروس التاجي مساعدات في هذا المجال إلى إيطاليا، الدولة الأوروبية المتطورة.

بقي النظام الكوبي، تجربة فريدة بالنسبة لدول العالم الثالث من جهة تحقيق إنجازات حقيقية في المجال الداخلي رغم قلة الإمكانيات وندرة الموارد المالية بمختلف أنواعها، الأمر الذي لم يتسن لفنزويلا ومثيلاتها.

وبعد رحيل تشافيز، تسلّم نيكولاس مادورو الراية "الثورية" في وقت بدأت فيه البلاد تترنح، والظروف المعيشية تشتد ويزداد انهيار الخدمات العامة مع تضخم قياسي، مدعوم بالطبع بضغوط أمريكية وعقوبات أمريكية شديدة.

كل ذلك أرغم أعدادا كبيرة من المواطنين الفنزويليين على الهجرة واجتياز الحدود بحثا عن ظروف أفضل. تواصل نهج تشافيز في فنزويلا إلا أن الضغوط الداخلية والخارجية ازدادت قسوة، وخبا البريق الثوري وجاذبيته الطاغية تحت إدارة "الرفيق" مادورو الأقل كاريزما من سلفه، وغرقت البلاد في الظلام والبؤس، فيما نجح النظام حتى الآن في تحمل الضربات العنيفة الاقتصادية والسياسية والأمنية.

قد يكون مادورو انتصر في معركة السلطة، إلا أن فنزويلا عمليا خسرت الحرب مع "الإمبريالية الأمريكية".