Atwasat

قوانين الوراثة

جازية شعيتير الأحد 07 مارس 2021, 08:59 صباحا
جازية شعيتير

توجد عديد القوانين الحاكمة لوراثة الفرع من أصله؛ بعضها طبيعية وأخرى وضعية؛ وهذه الأخيرة منها ما أستقر في الضمير البشري وتواترت بشأنه الأعراف المجتمعية، وبعضها قد تضمنته الكتب السماوية وفصلته المذاهب الدينية؛ ومنها ما سنته السلطات التشريعية وتباينت بشأنه الاجتهادات القضائية والتأويلات القانونية.

وقد تخصصت علوم تطبيقية وإنسانية وشرعية في دراسة تلك القوانين ولعل أشهرها؛ علم الجينات، وعلم الإجرام، وعلم المواريث:

أولاً: قانون علم الجينات:
ربما كان اكتشاف علم الجينات هو الحدث الأبرز في مجال الطب وبيولوجيا الكائنات الحية في المئة سنة الأخيرة؛ منذ أن وضع العالم مندل قوانين علم الوراثة في القرن التاسع عشر، قبل معرفة أي شيء عن الجينات بفترة طويلة، مروراً باكتشاف الكروموزومات الوراثية وتركيب جزيء الدنا في عام 1953، وصولاً إلى انطلاق مشروع الجينوم البشري في عام 1990.

ويهتم علم الوراثة بدراسة انتقال الصفات الوراثية من الآباء للأبناء ونسب توزيعها بين أفراد الأجيال المختلفة؛ وقانون هذا العلم يقطع بوراثة الفرع، مرغما، من الأصل القريب وحتى البعيد، كثيرا من الصفات الجسدية، الظاهرة والخفية، بما فيها العلل.

ولعل الفحص الجيني قبل الزواج من الفحوصات المهمة جداً، وذلك للحيلولة دون ولادة أجنة مصابة بعيوب خِلقية، خاصة نتيجة عادة زواج الأقارب؛ حيث تجرى استشارة للأشخاص المقبلين على الزواج الحاملين للطفرات الوراثية لمناقشة احتمالية إصابة المواليد بالمرض، ودراسة فكرة إلغاء الزواج أو منع الحمل عند الزواج؛ وفي ذلك تقضي المادة 18 من قانون المسؤولية الطبية الليبي رقم 17 لسنة 86 بأنه: (لا يجوز القيام بأي عمل أو تدخل بقصد الحد من التناسل ما لم يتفق الزوجان على ذلك وبما لا يخل بمصلحة المجتمع أو تقرره لجنة طبية مختصة بمقتضى الضرورة القصوى بالنسبة للمشوهين خِلقياً أو المتخلفين عقليا...)

كما يستخدم الفحص الجيني أثناء الحمل عند وجود عوامل خطورة عالية للإصابة بالتشوهات الخلقية أو الأمراض الوراثية، وذلك لمعرفة التغيرات الجينية قبل الولادة. وتساعد نتائج هذا الفحص في اتخاذ قرار الإجهاض من عدمه، ويثار في الفقه الجنائي جدل كبير بشأن هذا الإجهاض وهل يعد حالة ضرورة أم سبب إباحة؟ لا سيما وأن القانون الليبي لم يشر إليه في نصوص الإجهاض 390 وما بعدها من قانون العقوبات، ولا في نص المادة 18 من قانون المسؤولية الطبية.
ثانياً: قانون علم الإجرام:

ذهب بعض علماء الوراثة إلى أن ابن المجرم يولد مجرما؛ لوجود جين سيء يسمى "الجين المحارب" يرتبط بأنماط سلوكية غير اجتماعية، بما في ذلك السلوك المتهور، ويؤكدون على وجود ارتباط بين الآباء والأبناء من الناحية الوراثية الخاصة بالسلوك العدواني والإجرامي، وقد يستدل على ذلك بقول الله عز وجل: (إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا) الآية 27: سورة نوح، وقول الله جل وعلا: (يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا) الآية 28: سورة مريم.

ودلالة هذه الآيات الكريمات على التأثير المباشر للعامل الوراثي فيها قدر من الاحتمال، ذلك أن المنطق يقتضي إيلاء وزن نسبي كبير لعوامل التنشئة التي تختلط بالعوامل الوراثية، مما يُظهر الجريمة كما لو كانت ميراثاً ينتقل من الأب إلى ابنه أو من الأم إلى ابنتها، فالفاجر الكافر غالبا ما يربي ولده على سيرته، فيصدق عليه أنه (لا يلد إلا فَاجِرًا كَفَّارًا).

وعلينا التنبه لخطورة الاعتراف بانتقال الجريمة من خلال العوامل الوراثية، فقد يترتب على ذلك تمييز سلبي من المجتمع ضد الذين يرثون الجريمة، مما يعيق تأهيلهم وإصلاحهم بافتراض أن الجريمة قدرهم المحتوم.

وما يمكن استخلاصه من كافة الدراسات التي أجريت لبيان دور الوراثة في الظاهرة الإجرامية (دراسة شجرة العائلة، الدراسة الإحصائية لبعض العائلات، دراسة التوائم) أن ابن المجرم لديه ميل إلى الإجرام وهذا الميل الموروث قد يصادف تربية حسنة تقضي عليه؛ فالميل إلى السلوك لا يعني حتماً إتيانه. وقد شبه العلماء الميل الوراثي للجريمة بميكروب السل فهو لا يهاجم إلا الإنسان ضعيف المناعة.

ومن المحمود أن يجرى تعاون بين قسم القانون الجنائي وقسم علوم الطب الشرعي في بعض الجامعات الأجنبية لدراسة هذه الظاهرة؛ فقد نتج عن هذا التعاون مادة علمية جديدة تدرس لطلاب كليات القانون تحت مسمى "السلوك الجيني" بغية مساعدتهم في فهم التأثير الجيني على السلوك والمشاعر، والشخصية والتصرفات، مقارنة بتأثير البيئة المحيطة.

ثالثاً: قانون علم المواريث:
علم المواريث، أو علم الفرائض، هو أحد أهم العلوم الإسلامية وهو يُعنى بأحوال تَرِكة الميت وميراثه من حيث قسمتها على مستحقيها، وقوانينه التفصيلية المستمدة من الشريعة الإسلامية كثيرة ومنها: التعصيب والحجب والحرمان، وميراث الكلالة، والقاعدة الأكثر شهرة في الثقافة العربية الإسلامية: للذكر مثل حظ الأنثيين.

وبالرغم من تفصيل القرآن لآيات المواريث، وتعارف المسلمين بشأنها اعترافاً مستقراً، وتنظيمها قانونا في كثير من الدول الإسلامية؛ إلا أننا نلحظ تجاذبا فيما يتعلق بميراث النساء بين متطرف يميني وآخر يساري؛ فما زال ثمة من يقول: البنت لا ترث؛ لا سيما الأراضي والعقارات. وهناك من يذهب إلى وجوب وراثة البنت كالولد تماما، إعمالا لمبدأ المساواة في المواطنة.

وأصدق دليل على وجود ذلك التطرف اليمني هو اضطرار المشرع الليبي لسن القانون رقم 6 لسنة 1956 بشأن حماية حق النساء في الإرث، الذي أصدره الملك إدريس وقد أراد به أن يكون ميراث النساء وتعيين أنصبتهن طبقاً لأحكام الشريعة الإسلامية.

وبمقتضاه لا يجوز الامتناع عن أداء ما تستحقه المرأة من نصيب في الميراث. إيا كانت صور هذا الامتناع: عدم تسليم المرأة نصيبها في الميراث، أو الحيلولة دون انتفاعها به أو تصرفها فيه، أو حبس غلته عنها، أو عدم تمكينها من مباشرة ما للمالك من حقوق أخرى على ملكه.
أما عن التطرف اليساري فقد ترجم في تونس بمشروع تعديل قانون الأحوال الشخصية، وهو المشروع الذي قوبل بردود فعل متباينة ما بين ترحيب التيار المدني والمنظمات الحقوقية، وتنديد المحافظين وعلماء الشريعة الإسلامية.

والمفارقة تكمن في استناد الطرفين المؤيد والمعارض على الدستور التونسي وأحكامه. ففي حين يؤكد المؤيدون على أن الدستور ينص على المساواة التامة بين الجنسين، يستند المعارضون على المرجعية الإسلامية للدولة التي يؤكد عليها الفصل الأول من الدستور.
وفي جميع الأحوال، لا نستطيع إنكار غلبة الإرادة السياسية الحاكمة في جميع الأحوال؛ فمن جعل تلك الفكرة الثورية ترى النور هو الرئيس السابق السبسي، ويتوعد بوأدها الرئيس الحالي لتونس قيس السعيد.

وفي الختام تجدر الإشارة إلى أن القواعد الوراثية الوضعية كثيرة؛ فقد وضع البشر قواعد عرفية لوراثة مشيخة القبيلة، وقواعد دستورية لوراثة ملكية الدولة، ومنهم من قال بتوريث الطريقة الصوفية، ولم يجدوا غضاضة في القول بتوريث النبوة! ذلك ما يضيق المقام بتفصيله.
بيد أنه يتوجب، قبل إنهاء المقالة، شجب بعض مظاهر التوريث السيئة ومنها:

• وراثة الوظيفة العامة!! كذلك وراثة الحزب أو المنصب السياسي، وهي مظاهر شهدنا تطبيقها في كثير من البلدان العربية، للأسف الشديد.
• ومنها أيضاً هذه الوراثة الزائفة لتاريخ الأجداد ونسبته للأحفاد بدون أدنى جهد أو تجديد! ولله در الوريث الشرعي للقصيدة العربية حين فند هذا الزيف بقوله: إنَّ الهوية بنتُ الولادة لكنها في النهاية إبداعُ صاحبها.. لا وراثة ماض.