Atwasat

دعاء مستجاب

سالم الكبتي الأربعاء 03 مارس 2021, 10:24 صباحا
سالم الكبتي

الحاءات الثلاث تشكل مدنا عريقة في تلك السهوب. في ديار الشام.. هناك. حمص. حماه. حلب. ونهر العاصي يجري بلا توقف منذ الأزل. في واسطة العقد حماه وُلد محسن الشيشكلي عام 1917. تعلم في سوريا ثم فرنسا. كان أستاذا مهيبا في القانون الدولي. وعميدا لكلية الحقوق التي أسسها في حلب. وكان أديب الشيشكلي أحد أقاربه عقيدا في الجيش السوري ثالث عسكري يقرع باب الإذاعة في دمشق بعد حسني الزعيم وسامي الحناوي ليحكم سوريا ثلاث سنوات من 1951 إلى 1954. وأيام الوحدة المصرية السورية رشحه عبدالحكيم عامر مع آخرين عام 1961 قبل الانفصال ليكون أحد محافظي حماة. وذلك لم يتم. كان قد ترك البعث منذ فترة قديمة وخاض صراعا طويلا مع أكرم الحوراني. قبل أن يغادر ليقيم في أوروبا. حاملا معه الحلم بالحرية وترسيخ القانون وقيم المساواة.

حين بلغ د. محسن الشيشكلي خمسين عاما وصل عام 1967 إلى كلية الحقوق في الجامعة الليبية في بنغازي. كانت تقع على البحر عند شاطئ الشابي قرب السجن القديم وكانت سابقا مدرسة لأبناء اليهود الليبيين في المدينة. في ذلك المبنى لم يبخل الشيشكلي بالعطاء العلمي لتلاميذه الذين احتضنتهم الكلية التي تخرجت أولى دفعاتها عام 1966. وكذا في التأليف. كان له شموخ الأستاذ. ومهابة القانوني الرفيع الذي يذود عن حمى القانون وحرمات الحقوق ويغرسها كل يوم.. كل محاضرة في نفوس وأعماق طلبته الذين انبهروا بدروسه ومحاضراته ومواقفه.

مكث الشيشكلي في بنغازي مدة تقارب العشرة أعوام أستاذا مهيبا وشامخا كعادته. وعندما رأى الأعواد تعلق وتنصب في الميادين والجامعات، والحرمات تداس، والقوانين تغيب بعيدا، غادر ولم يشأ البقاء في بلد تذبح فيه تلك القوانين وترمى في سلال المهملات وبراميل القمامة وتنتشر المشانق. القانون والحريات والحقوق تحتاج إلى من يقيمها ويصونها بأسيجة الحرية ويرسخها بالعدل. لكن مايحدث كان شيئا آخر. لم يتفق ذلك الأمر المهين وضميره إنسانا وأستاذا وقانونيا يدافع عن الحمى والحرمات التى ضاعت.

غادر بنغازي ذات يوم. ترك المدرجات. ودع تلاميذه ومحبيه الحالمين بالقانون والعدالة. وصل إلى روما في إجازة. مر بأرجاء الفاتيكان في سياحة ذات عشية وهي ليست بعيدة عن روما. جلس في أحد المقاهي. احتسى فنجان قهوة. كانت المرارة تكتسي قلبه وتفعم أعماقه إلى حد كبير. كان عقله في بنغازي، بل في المنطقة كلها التي تشهد الانحدار في ظلم الإنسان على الدوام. كتب برقية مختصرة من ذلك المكان في الفاتيكان إلى من يهمهم الأمر في ليبيا. قال: (من المكان الذي لايستجاب فيه الدعاء. أدعو لكم بالتوفيق)!!

كانت مجرد مرافعة سريعة لم يعلم بها الكثيرون في ليبيا. شموس العدالة، وإن توارت بعض الوقت، لايحجبها الظلام. تسطع من جديد في الآفاق وتعم الرحاب. في مطلع 2013 رحل الأستاذ الشيشكلي غريبا عن بلاده.. مواصلا الدعاء بالتوفيق للجميع!!