Atwasat

ربيع دشنته الموسيقى الجامحة

سالم العوكلي الثلاثاء 02 مارس 2021, 12:57 مساء
سالم العوكلي

على ما أعتقد أن الأغنية الجديدة؛ التي سميت وقتها الأغنية الشبابية بكل ما يحيط بها من إزراء من قبل المؤسسة الموسيقية الراسخة، بدأت مع عقد الثمانينيات* حيث ولدت في بعض فجوات معزولة في الهامش لتجتاح فيما بعد عاصمة الموسيقى العربية، القاهرة، حيث هناك من الممكن أن يقتل الفنان أو يتحول إلى أسطورة، وبالتالي أطلق على مثل هذه الأغاني تسمية قيمية وهي "الأغنية الهابطة" مثلما أطلق على حقبة الشعر العربي في إحدى مراحل محاولاته الخروج عن القالب والخطاب العتيق بالغوص في الزخرف اللغوي تسميةُ عصر "الانحطاط الشعري" بينما اندرج هذا الدأب الجمالي في الغرب تحت مذهب "الشكلانية" في النقد.

غير أن هذه الأغنية (الهابطة) كانت تصعد باستمرار بناء على ما تلقاه من صدى واحتشاد شبابي حولها، وعبر إخراج بصري وإيقاع عنيف تجاوب معه الجسد الإنساني الشغوف بالحركة، وكان الإيجابي ــ بغض النظر عن أحكام القيمة ــ أن الشارع يتناغم مع هذا الجديد، غير أن الأمر أبعد من ذلك لأنه يعبر عن رغبة في الثورة على القديم وعلى كل سلطة مكرسة.

فالموسيقى قبل ذلك، أو ما يمكن تسميته بالموسيقى الملتزمة أو المنضبطة، أفرزت مؤسستها الاستبدادية تماهيا مع المناخ السياسي المسيطر، وأفرزت رموزها أو طغاتها الناعمين، ذوي النفوذ والقوة والسلطة المطلقة في جمهورية الموسيقى، لدرجة اكتسب قادتها نوعا من القداسة تُحرّم انتقادهم، وأصبح أي فنان جديد لا يمكن أن يفكر في النجاح إلا إذا اعترف مرارا أنه خرج من معاطف هؤلاء الآباء وتحدث عنهم بورع. وكان الفن عموما ينتشي ويصعد مع انتشاء وصعود النظام، وينكسر أو يُهزم وينتكس معه، في حالة تماه شكلها اتفاق ثنائي على الانضباط المتبادل، وكان منطقيا أن يُقلَّد فنان كبير، مثل عبد الوهاب، رتبة عسكرية (اللواء) مثلما استولى العسكريون في ليبيا على الأغنية والموسيقى. لكن في الهامش، في الخلوات وفي الغرز وفي الأعراس أو حفلات الفنادق، كانت تنفجر غريزة أخرى لموسيقى تتعالى بحماقتها على تبجح المؤسسة الرسمية، وتجذب الجيل المعايش لتمردها على السلطة، ولاقترابها من لغته وجسده ومكابدته المتراكمة. وعلى عكس الموسيقى التقليدية كانت تقابل انتكاسات النظم السياسية بالانتعاش وبمزيد من السخرية.

فترة بداية االتسعينيات حين كان التواصل عبر الرسائل وطوابع البريد بعثت لي صديقة من مصر رسالة مرفقة بقصاصة من جريدة كانت عمودا صحفيا كتبه الصحفي الكبير أنيس منصور، وأذكر أن فحوى هذا العمود اتهامه للأغنية الليبية بأنها أفسدت الأغنية المصرية. أعتقد في تلك الفترة كان المقصود هو الفنان حميد الشاعري الذي اجتاح سوق الموسيقى بنكهة جديدة وجدت لها صدى عند قطاع الشباب خصوصا، وكانت بدايته من خلال أغنية لولاك التي وزعت مليون "اسطوانة" متجاوزة أغنية (من غير ليه) للفنان عبدالوهاب، وربما هذا ما استفز الكاتب أنيس منصور ليكتب عموده الصحفي ذاك الغاضب، غير أن الذائقة الجديدة كان من الواضخ أنها متعطشة للنوع الجديد حتى وإن ظهر مرتبكا وملعونا.

التسويق في الفن وأرقامه مؤشر يشبه مؤشر الاستفتاء في السياسة، وحين تكتسح الموسيقى أو الأغنية الجديدة الأرقام والعدادات فهذا يشي برغبة مكبوتة في التغيير والخروج عن النظام القديم بكل ما فيه من أبهة وصرامة ووصاية.

كنت دائما مغرما بالمغني أحمد عدوية، دون أن يخلو هذا الغرام من حرص متعال على أن يكون سريا، لأن النزوع لأن تُدرج ضمن النخبة المتذوقة سيهدده مثل هكذا إعجاب بالفن الذي كان يسمى (هابطا) أو في أفضل الأحوال "شعبيا"، وكانت وقتها نقابة الفنانين تمنع عدوية من الانتماء إليها، كما تُمنع إذاعة أغانيه في وسائل البث السمعي والبصري الرسمية التي لا يوجد غيرها، غير أن الاستفتاء على عدوية شعبيا كان سيظهر أرقامه كاسحة. عدوية قريب من الشارع المصري ملتصق بلحمه وعرقه ونكتته وفهلوته، لغة أغانيه (شوارعية) بالمعنى الإيجابي وليس بدلالتها القدحية، فالشارع الذي طالما شكل قلقا للنظام السياسي كان مصدر إلهام الأغنية الجديدة وهدفها.

لقد تشكل في مصر في فترة ما مجلس لقيادة الموسيقى لا يختلف عن مجلس قيادة الثورة السياسي، ولا يمكن لأي فنان أن يَعْبُر إلا برخصة من هذا المجلس، وأي موهبة لا تتحدث عن أم كلثوم وعبد الحليم وعبدالوهاب فهي فاقدة للشرعية الفنية ومخسوف بها من البداية .

ولم تستطع تلك الأغاني الوصول إلى المسارح الفخمة أو دار الأوبرا، لكنها كانت تتواصل بمثابرة وتجمع حولها الحشود عبر الفجوات المتروكة في الفضاء المحكم في جمهورية الفن أو مملكته ذات الحدود المرسمة، في المقاهي وحفلات الأعراس وفي الهوامش عموما، ومع الكاسيت كأداة سمعية ثم الألبوم كمصطلح بصري، كانت تدمر الأرقام وتتصاعد بقدر ما تسمى هابطة، وكان الكاسيت في عالم الموسيقى مثل الفيس بوك فيما بعد في عالم السياسة، غير أن الرغبة في الثورة وتغيير النظام القديم بدأت مبكرا، ربما لم تسفر عن إسقاط النظام القديم ولكنها زحزحتْه وأخذت مكانها بجانبه.

شكل عبور وصعود نجم فنان لا يملك أي مقوم من مقومات الفن حسب الترسيم القديم، مثل شعبان عبد الرحيم، صدمة كبيرة للمؤسسة الموسيقية، وحسدا من الجيل القديم الذي مازال خاضعا لها، أما وسائل الإعلام فكانت تجري معه لقاءات لتسخر من هذا المغني الشعبي شبه الأمي وتعري جهله أمام الملأ، لكن شعبيته كانت تزيدها هذه السخرية، وكانت البساطة والسذاجة نوعا من السحر الذي يزيده نجومية، وتحوّلُ الترزي القديم إلى نجم موسيقي كان يعني الكثير لطبقة من المصريين ترى أن إسقاط النظام القديم ممكن بالتهكم عليه بالموسيقى نفسها. ومع عصر التقنيات الجديدة فشلت محاولة احتواء هذه الثورة الغنائية من قبل المؤسسة الرسمية من أجل ترويض جموحها ومروقها، وهي حالة الاحتواء نفسها التي حدثت مع الشعر الحر حين اجتاح المدرسة التقليدية في مصر، منذ الستينيات، ليتحول هو نفسه عبر رموزه ذوي النفوذ إلى جزء من المؤسسة القديمة الوصية على الشعر والنافذة والمحاربة للجيل اللاحق من أبناء القصيدة النثرية، لدرجة أن محاولة مقابلة أحد شعراء هذه الطبقة يحتاج إلى عناء أكثر من مقابلة نافذ في السلطة السياسية العليا.

اللافتات في ميدان التحرير وغيرها من الميادين المنتفضة على النظام القديم الساخرة ذات النكهة الشعبية التي ملأت ميدان التحرير فيما بعد، كانت كلها تتناص مع جمل ولغة الأغاني التي سُميت هابطة، وكأن ما حدث في الموسيقى منذ عقدين ونصف أصبح يتحول إلى عالم السياسة، ولا عجب أن تطلق النعوت التي كانت تطلق على الأغنية الشبابية على الثوار الشبان من الطبقة الوسطى الذين يخترعون موسيقاهم الخاصة وإيقاعهم الخاص، لتصبح فيما بعد أغنية الراب هي الموسيقى المصاحبة للربيع العربي بكل ما فيها من غضب ونثرية وألفاظ نابية وسخرية، ولا غرابة في أن يكون أول هتاف غاضب يسقط أنظمة عتيدة نثريا خالصا دون وزن أو قافية، انتزع موسيقاه من قلب الشارع الذي جاء منه. تسللت أغنية الراب في ثورات خرجت من بيوت الرب والأدعية، فكانت تحقن هذا الحراك الملتبس بجرعة حلم مستقبلي، ليس الموسيقى فقط خطابه ولكن الإيمان بالإرادة كنزعة إنسانية قادرة على تغيير القدر.

قال يوما شاعر في سن مراهقته الغنائية "إذا الشعب يوما أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر" ورغم ذلك ستظل الأنظمة العتيقة تدافع عن نفسها كقدر لا يمكن إلا الرضوخ له في النهاية، وتحاول البقاء بكل جهد، لكن مع هذا المروق الكامن في كل جيل ومع ثورة التقنيات الحديثة التي تخدم مشاريعه المستقلة بعيدا عن مؤسسات التحكم والرقابة، فإن عمر هذه الأنظمة لن يطول، فمصطلح الأجيال المجازي الذي يطلق على موجات متعاقبة من تقنية التواصل والمعلومات يلد أجيالا مختلفة من البشر في الواقع، ونقابات الفنون التي ولدت في كنف الأنظمة الشمولية ستتصدع أمام هذه الاستقلالية التي لا ينتجها وعي فردي فقط ولكن ثورة تقنية أعطت لكل فرد في هذا العالم مساحة أن يعبر عن نفسه، سواء أكان يسكن في إحدى عشوائيات القاهرة أو في الوول ستريت.
أو كما قال نيتشه: يجب أن تكون الحياة فنا ونحن فنانوها.
* الواقع أن الأغنية الشبابية بدأت في ليبيا بداية السبعينيات مع الفنان ناصر المزداوي. (المحرر).