Atwasat

السقف الزجاجي

رافد علي الثلاثاء 02 مارس 2021, 06:35 صباحا
رافد علي

من المشاكل التي تسود مجتمعاتنا المعاصرة، وبنسب متفاوتة، تلك المشاكل التي تبرز حالة من العنصرية ضد الآخر باعتبارنا مجتمعات تعيش في حضارة غير مسبوقة من تاريخ الإنسان. فحركة المجتمع الحديث تستوجب تطويع المفاهيم المبنية على تعزيز كرامة البشر بما يتجاوز نمطية الأزمان التقليدية التي لازالت رواسبها عالقة في ثنايانا. فحكمة الحياة تفرض علينا هضم المتغير فيها كأفكار وقيم المساواة ونبد التعنصر اللتين تسودنا اليوم بنهج مجتمعات السوق المفتوحة بأسس سيادة مبدأ تكافؤ الفرص بين جميع المنخرطين في مؤسسات العمل، فحركة المجتمع وفق روح العصر الذي صار يوصف بـ "العالم المسطح" كما يسميه فريدمان في كتابه المشهور، فمن ضمن الإشكالات السائدة في عالم اليوم ظاهرة السقف الزجاجي Le plafond de verre/ Glass ceilling، وهي ظاهرة محسوسة من حولنا بمجرد النظر لواقعنا بنظرة محايدة، ترفع فيها النظرة المألوفة والمعتادة لمحيطنا الوظيفي.

السقف الزجاجي مصطلح صيغ لأول مرة من قبل الأمريكيتين كاترين لورنس ومارين شيبر في نقاش حول سياسات الترقية للمناصب العليا في المؤسسات والشركات الأمريكية عام 1978، لتدشنا معا النقاش حول العوائق التي تواجهها المرأة في أن تصل إلى تولي مناصب القيادة في المؤسسات التي تعمل فيها المرأة. فقد ظهر مصطلح السقف الزجاجي في الشركات الأمريكية بعد أن لوحظ أن المسيرة الوظيفية للأمريكية تتوقف عند نقطة معينة مقارنة بالرجل، مما تسبب في تدني حضورها بمجالس الإدارة حسب ما يقول تيلور واجونيل. وقد انتشر ذات المصطلح على نطاق واسع بعد مقالة في جريدة وال ستريت الشهيرة لوصف الحواجز التي تواجه المرأة في مسيرتها المهنية لتصل إلى أعلى السلم الوظيفي. وتأتي التسمية "سقف زجاجي" لمنح الدلالة للحواجز اللامرئية التي تعرقل وصول المرأة لمكانة قيادية، في ظل الحرص على الشفافية والاحترافية والمساواة ضمن نمط الحياة العصرية المكفولة بتشريعات تضمن تكافؤ الفرص.

الحياة الأكاديمية اليوم تعج بمحاولة وضع صيغ منضبطة لتعريف ظاهرة السقف الزجاجي، بل إن الدراسات العلمية بالخصوص، على مستوياتها المختلفة، وجدت طريقها إلى النور، وبكل لغات العالم، بما فيها اللغة العربية، بقصد الكشف عن ملامح حقيقة هذه الظاهرة، ولفهم مسبباتها ولاقتراح الحلول المناسبة لتجاوزها. منظمة العمل الدولية في تقريرها السنوي عام 2015 "ص18"، يعرف الحاجز الزجاجي بأنه: "حواجز مصطنعة تقررها الأفكار المسبقة التي تقصي المرأة من المراكز التنفيذية العليا". انتقد بعض المهتمين بـ "السقف الزجاجي" تعريف المنظمة المذكورة لكونه ينكب علي الجنس اللطيف دون سواه، إذ صار مصطلح السقف الزجاجي اليوم في العالم الغربي يتمتع بحمولة أوسع دلاليا، إذ بات يشمل عناصر بشرية أخرى كأصحاب الاحتياجات الخاصة والأقليات الإثنية كالسود والهنود مثلا.

ففي عموم الحال، ونحن نتعاطى مع السقف الزجاجي كمصطلح علمي، سليل علم الإدارة والأعمال، سيتضح لنا أنه استعارة لوصف حواجز غير منظورة تنشأ نتيجة تحيزات بعينها تنشأ، بدورها، عن انطباعات وأفكار محددة حول المرأة العاملة والمعاق وبعض الفئات الإثنية، إضافة إلى تسليط الضوء على ممارسات تنظيمية معينة، مما يجعل تلك الفئات المذكورة دون مستوى التمثيل البيروقراطي المناسب Underrepresentation في الوظائف التنفيذية العليا، ومراكز القيادة.

نظرا للحساسية الشديدة التي أثارها ظهور المصطلح في العالم الغربي الذي يعتز بقيمه الليبرالية، بادرت وزارات العمل وذو الاختصاص بسوق العمل، وعلماء الاجتماع، وأهل القانون والإحصائيون لتفكيك الظاهرة التي نتحدث عنها. المجتمعات العربية لم تكن بعيدة عن مجال الاحتكاك بالسقف الزجاجي، كحالة اختراق لبعض من سقوفنا العديدة المعلنة منها، أو تلك التي لازالت تعاني سطوة الكبت. فقد تمكنت من الاطلاع على عدة دراسات عربية عن السقف الزجاجي صادرة على الترتيب في الشارقة والجزائر والأردن ومصر، وجميعها منصبة على المرأة دونما إلقاء بصيص نور على الفئات المجتمعية الأخرى التي باتت مشمولة بمصطلح السقف الزجاجي. كما بينا أعلاه ترتكز الدراسات العربية الأربع على تلمس اسباب الظاهرة، وتتفق جميعها على تقسيم أسباب السقف الزجاجي العربي إلى أسباب ذاتية تتمحور حول ضعف تأهيل المرأة وتدريبها على السلوك القيادي، بما يٌحجِّم رفع ثقة المرأة بنفسها للمنافسة، والتقليل من خوفها من الفشل في مجتمعها الذكوري، إلى جانب عبء التزام المرأة العربية بمسؤولياتها العائلية.

العوامل التنظيمية أو المؤسساتية من العوامل البارزة في الدراسات العربية التي اطلعت عليها، وهي المنصبة علي ثقافة مؤسسات أو شركات العمل، ومدى المرونة والشفافية لديها في جعل المنافسة على المناصب العليا فيها عملية مفتوحة وشفافة. فالمؤسسة الكلاسيكية تعمل علي تغييب مبدأ التكافؤ. كما للعوامل القانونية والتشريعية أيضا حضورها في هذه الدراسات. فالنصوص التي تتعلق بترسيخ المساواة بين الجنسين، ومنح الأقليات حقوقها المدنية بشكل واضح في العالم العربي تشير لمشكلة في تطبيق المساواة بين الجنسين بسبب معوقات مختلفة، ففي بعض مجتمعاتنا تبرز أن حرية تنقل المرأة مرهونة بموافقة ولي الأمر ومباركته للمرأة في السفر للدراسة أو للتدريب والتأهيل، كما تشير دراسة نشرتها مجلة جامعة الشارقة عام 2018.

القيود الاجتماعية، التي تعد محل نظر واسع بهذه الدراسات بسبب سيادة الحياة التقليدية في معظم شعوبنا العربية، بسبب رساخة أعراف وتقاليد لاتزال تمنح المرأة حيزا ضيقا في مجال العمل أساسا، فلا تتعدى فيه المرأة درجة قصوى في سلم وظيفتها. إذ تشير الدراسة المصرية المتعلقة بالسقف الزجاجي، إلى عنصر تسلط الازواج والظروف الأسرية والنظرة الدونية للمرأة كعوامل تحول دون توليها المناصب القيادية بالمؤسسة الصحفية، وهي دراسة صادرة عام 2019 عن مجلة كلية التجارة والبحوث العلمية. جامعة الإسكندرية.

الدراسة الجزائرية تقترح لتجاوز السقف الزجاجي الذي تعاني منه العربية فكرة "تمكين المرأة" عبر محاولة الالتفاف على كل المعوقات بشكل تدريجي بما يمنح المجتمع حالة من الثقة بالنفس في قضايا النسوة وقدرتهن على أن تبني السيدة شخصيتها كموظف كفؤ قادر على قيادة غيره، خصوصا من هم دونها. ذات الدراسة تنادي بناء على عينة دراستها التي تركز عليها تنادي بمنح المرأة مزيدا من الثقة بالذات والاستقلالية، وإلى أن تسعى المرأة لأن تكون عضوا أكثر فاعلية في مجتمعها ومحيط عملها، وللانخراط أكثر لمجتمعاتنا في خطط التنمية، كون أن مفهوم التمكين مرتبط بعملية التنمية.

يسيم آرات في أطروحتها "الإسلام والديمقراطية الليبرالية في تركيا.. النساء الإسلاميات في معترك السياسية" أشارت إلى نجاح العنصر النسوي في نقل حزب الرفاه في آخر الألفية الماضية، من خانة حزب معارض هامشي، إلى حزب صاحب حضور سياسي قوي، ونجاحهن، بنظر الكاتبة، في "تسييس اللا مسيّس" من خلال مشاركتهن في العمل داخل الحزب، والعمل كمسيّسات في المحيط الاجتماعي، ساعد في رفع عدد أعضاء الحزب، وساهمن برؤاهن في اتساع قاعدته على الارض، فقد بقين، سيدات الرفاه، ناشطات ملتزمات لأنهن حصلن على الرضى الذاتي من خلال التضامن والرفقة والوطنية التي كانت حصيلة عملهن، وليس فقط الرضى الوجداني المكتسب من الالتزام الديني. إلا أن طموحهن الذي تحقق في اختراق أعمق للحواجز على الصعيدين المجتمعي والفردي، لم يكتب له الاستمرار أبعد من ذلك لسطوة السقف الزجاجي لتوليهن مناصب قيادية في حزب الرفاه ذاته، أو في حكومته التي تشكلت لاحقا، في تلك الحقبة التاريخية. السقف الزجاجي لابد وأنه سقف سميك في بلداننا، وطالما أن نصف المجتمع يسجل غيابه، فإن مسير النهوض سيطول حتما.