Atwasat

وجوه متربصة

محمد عقيلة العمامي الإثنين 01 مارس 2021, 01:01 صباحا
محمد عقيلة العمامي

" مقالات" كثيرة تقول أن الكاتب "ميشيل دي مونتين" من أكثر كتاب فرنسا تأثيرا في عصر النهضة الأوروبية، وتنسب إليه الريادة في كتابة المقال، مثلما جاء في كتابه محاولات، الذي صدر سنة 1585، ولكن الأديب البغدادي أبو الفرج بن الجوزي سبقه، بكتابه "صيد الخاطر" وهو في مجمله مقالات في مختلف النواحي.

أعترف أنني لم اسمع بالحديث الشريف، الذي يقول:" قًيدوا العلم بالكتابة" إلاّ منه، على الرغم من دراستي لمادة الدكتور عبدالعزيز برهام الإسلامية في سنتي الأولى بكلية الآداب، بالجامعة الليبية سنة 1968، وكانت غايتها إثبات أن القرآن الكريم كتب أثناء حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقدم الكثير من البراهين على أنه كان يأمر بهذا وذاك، حفظ الآيات ويأمر بتسجيلها حين نزولها.

كتاب ابن الجوزي "صيد الخاطر" هو باختصار شديد فصول سجّلت خواطره الناتجة عن تجاربه، وهي ليست نتاج بحث وتدقيق، وإنما مثلما قال : "هي خواطر آنية تولد وتزول سريعاً إنْ لم تُدوّن". لهذا سعى إلى تدوين إنتاجه في الكتاب، المشار إليه، وفي العصر الحديث اصدر أحمد أمين إبراهيم الطباخ (1886 - 1954)، أشهر كتاب في المقالة الأدبية في الأدب العربي الحديث (فيض الخاطر) وهو من عشرة أجزاء تناولت مقالات أدبية واجتماعية فلسفية وسياسية وهي طويلة كمقالات عصر النهضة، وما لحق بها فيما بعد.

أنا لا أنوي تأريخ المقالة، ولكنني وددت أن أتناول معكم، جزئية هي غاية في الأهمية، وهي أنه ثمة فرق كبير ما بين المقالة الإبداعية، كمقالات الراحل خليفة الفاخري، وهي تلك التي تبرز معاناة الكاتب في توضيح فكرته وصولا إلى إيصال المعني الذي قد يكون رمزيا، ينتقد فيه تسلط السلطة على سبيل المثال، أو التعبير عما يعتمل في صدره من رؤية فلسفية، أو معاناة من أمر ما، ومثل هذه المواضيع تحتاج إلى نحت "الكلمة"، مثلما قيل عنه، لإبراز تلك المعاناة، هكذا كان الفاخري يكتب. مثل هذه المقالات هي الأصعب والأكثر تأثيرا، ولا يمكن باي حال من الأحوال أن تكون كثيرة، بعكس المقال الأسبوعي، الذي يعد "مهنة" صحفية، لأنه يتعين أن يكون أسبوعيا، وأحيانا يوميا، مثل عمود الكاتب المتميز سمير عطا لله، الذي ينتقي فقرة من موضوع كبير، ويختزله ببراعة في عدد قليل من الكلمات.

في بداياتي، حاولت أن أستمر في كتابة المقالة الإبداعية، فكانت مقالات قليلة، أغلبها جاء نتاج تجربتي في البحر وصيد السمك وعلاقتي بأصدقائي الرياس، ثم حكايات وذكريات متفرقة، إن لم تكن لغاية، فهي، على الأقل، مسلية. ولكن منذ أن انطلقت بوابة الوسط، أصبحت مقالتي "مهنية " يتعين أن تكون جاهزة كل أسبوع، فمنذ 2/2/2014 كتبت "318 مقالة " ولو احتسبت سنجد أنها بمعدل مقالة كل أسبوع.

لتكتب على هذا الأساس يتعين أن تتابع ما يحدث، وما يكتب، وأن تقرأ في الاتجاهات كافة، دون ملل أو كلل، وإلاّ ستفقد رونق المقالة وجمالها. قد يستعين الكاتب بالحيلة، والخدعة، ولكن، في الغالب، قصيرة العمر. حدثني كاتب المقالة المتميز الأستاذ مهدي كاجيجي، في معرض نقاش عن هذا الموضوع، فأخبرني عن كاتب -رحمه الله- كان كلما تأخر في تسليم مقاله، وهو أمر اعتاده! كان ينزوي، ويكتب مقدمة بسيطة عن أمر ما، ثم يدخل مباشرة، قائلا: "هذا ما حدث مع الفيلسوف فلان، الذي قال.."ثم ينقل ما قاله كاملا، ويختمه بنقطة ويوقع أسفله.
وأنا لماذا أكتب لكم هذه المقدمة الطويلة؟ حسنا! لأنني قرأت عددا من مواضيع من بينها مقالة ظريفة عنوانها " وجهي" للكاتب الأمريكي "روبرت بنشلي" الذي مارس كتابة المقالة، والنقد والمسرحية، وتقمص بعضا من شخصيات مسرحياته، وقادم مشاهد ضاحكة منها بنفسه. في مقالته الظريفة هذه. سخر فيها من شكل وجهه عندما يراه في المرآة. لقد استوقفني سطر لخص فيه أن البشر جميعا لديهم رغبات دفينة لها علاقة بالمرض النفسي المسمى "الماسوشيستية "، وإن كنت أرى أن ما طرحه، هو في الواقع "النرجسية" فالمرض الأول هو إيذاء النفس، أما الثاني فهو حب الذات.

يقول: "حين يصل المظروف الذي يحمل صورا لرحلة ما، أو مناسبة يكون المرء أحد المشاركين فيها، ما إن تصله الصور، سواء أكان هو الأول، أو التالي، يشرع في تدويرها، ولا يتوقف إلاّ عند تلك التي تحوي صورته، فيطيل فيها النظر، متفحصا ومتأملا.." وأعتقد أن هذا ما يقوم به أي إنسان، سواء أكان رئيس مجلس رئاسي، أو انتقالي، أو رئيس وزراء، او نواب، بل حتى وزيرا فقط معروفا أنه فقد هيبته أمام رئيسه، من كثر ما تملقه قبل اختياره، أو أحد الذين كانوا في استقباله أو الترحيب به، وهم في الغالب الأكثر اهتماما باختيار المكان المناسب ليفوز بأكبر عدد من الصور، وغالبا ما يتصنعون حالة "صورني لأني مش واخد بالي!"، والحقيقة التي لا شك فيها، أنهم، عندما تصل الصور المنتظرة، ومهما تصنعوا اهتماما بصور الآخرين، خصوصا ضيوف الشرف، فإن أعينهم لا تتسمر إلاّ على صورهم! وهو شيء طبيعي لأننا كلنا هكذا: نهتم، أولا، بصورنا، قبل حتى صور من يوقع على قرار إلى الإيفاد إلى عالم الثراء!.

ويستمر، السيد " بنشلي"، في وصف وجه ، بعد أن يؤكد لنا، أنه مجرد مراقب للظواهر الطبيعية، وأنه يجد نفسه مفتونا بهيئته الشخصية، عندما يراها في المرآة حال ذهابه صباحا إلى الحمام، مهما كانت ضراوة ليلته السابقة.. وبالطبع أستطيع أن أحدثكم طويلا عما كتبه السيد "بنشلي" ولكنني أخشى أن تعتقدوا أنني ممن وصفه الأستاذ الكاجيجي!؟ ولكن سوف بالتأكيد تتذكرونني عندما تقفون أمام المرآة، أو تصلكم، على نحو ما، صور استقبال أولياء الأمر فينا!.